من وحي كلمة السيد نصرالله نقاط على الحروف ناصر قنديل
ناصر قنديل
بالرغم من تأكيده على تخصيص كلمته للمناسبة الدينية التي يمثلها منتصف شعبان ، أطلق الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في كلمته جملة من العناوين ، التي ترتبط بالأسئلة العميقة الثقافية والفكرية والوجودية التي طرحتها هذه الهمينة المطلقة لجائحة كورونا على البشرية افرادا وجماعات وعقائد وأنظمة و أنماط حكم ، بصورة لم تطرح فيها من قبل ، فالبشرية التي عرفت أحداثا غيرت مسارها في العلم عبر الإختراعات والمبتكرات والإكتشافات والثورات العلمية ، وفي الحروب العالمية والإقليمية ، وفي الأمراض والأوبئة ، وظهور الفلسفات والعقائد ، والتي كانت لها آثار كمية ونوعية هائلة في مجال فعلها ومدى تأثيرها ، في زمانها وما بعده ، لم يحدث أن برزت ظاهرة تشغل البشرية كلها في وقت واحد على مساحة الكرة الأرضية كلها ، وتصير شغلها الشاغل ، بأجيالها ، وأعراقها ، كبارا وصغارا رجالا ونساء ، أغنياء وفقراء ، متعلمين وغير متعلمين ، حكاما ومحكومين ، وهم جميعا مصابون بالتسليم بالعجز والضعف والذهول والحيرة ، ومفروض عليهم السكون والشلل والإنكفاء والتجمد ، لشهور ليس لها رغم كل الجهود العلمية والحكومية ، نهاية واضحة بعد .
مسار البشرية كان دائما محكوما بالسعي للتخلص من الشعور بالضعف ، وتوظيف العلم والمال والسلطة كثلاثي لإبعاد هذا الشعور الذي كان يتحدى البشر منذ بدء التاريخ ، وتوهم التخلص من هذا الشعور بالضعف أوقع البشرية في الطغيان ، فالتهافت على المال كان أساس الجشع ليس بإعتباره وسيلة للتمتع بخيرات الحياة وحسب ، بل أيضا كوسيلة لصد ضغوطها ودرء أخطارها ، وها هو اليوم لا يفيد مالكيه لا بتحقيق التمتع ولا بضمان الشعور بالقوة ، والتنافس والنزاع على السلطة كان دائما رغم دوافعه ونوازعه العديدة مسقوفا بالسعي للشعور بالقدرة على التحكم بمصادر الخطر ، ومصادر القوة ، ومصادر الثروة ، لتحقيق أعلى درجة من السيطرة على المصائر ، مصير من يمسك السلطة ومصير الاخرين ، وها هي السلطة اليوم لمن يمسك بمقاليدها لا تنفع في التحكم بشيئ ، لا في الإقتصاد الذي كابر البعض لرفض وقف دورته ، ولا في الأمان الشخصي والعام ، والفيروس يجتاح كل يوم آلافا جديدة ويقتل مئات جديدة ، ولا يعرف الحاكم نفسه متى يكون هو من ضحاياه ، رغم إمساكه بأزرار الحرب النووية التي ظن طويلا أنها أعلى درجات الخطر ، وقد وضعها تحت السيطرة ، والسعي للعلم بصفته كاشف أسرار الكون والطبيعة والوسيلة المثلى لمواجهة وإتقاء النوائب ، وقد جمع منه البشر أفرادا وحكومات وجماعات ، ما توهموا انه كاف ليمنحهم الشعور بالسيادة على مصائرهم ومصائر غيرهم ، يقف هو الآخر عاجزا ، والفيروس يحصد علماء الفيروسات والأطباء ، وأول العجز هو العجز عن فهم الذي يجري وتفسيره .
عودة البشرية إلى شعور الإنسان الأول بالضعف والعجز ، تأتي بعدما دار الزمان دورته ومنح البشر الوهم بأنهم مسيطرون على كل شيئ ، ومن ميزات كورونا اليوم أنه يفرض على البشر الشلل ، خلافا لكل ما مر عليهم من أحداث كبار ، كانوا يواصلون حياتهم في ظلالها ، أو كان بعضهم على الأقل يفعل ذلك ، وهذا الشلل التام ، يجعل التأمل المشفوع بالعجز والخوف والضعف ، فرصة للتفكير والتقييم ، وإستخلاص النتائج ، واولها وأهمها ، الذي أراد السيد تسجيله هو أن ربط البشرية للإيمان بالخالق بمعيار الضعف وتخيل الإستغناء عن هذا الشعور سببا للتخلي عن الله ، يوضع كخلاصة خاطئة مجددا على الطاولة للنقاش ، وفيما يسترد الإيمان إعتباره ، كتسليم عميق بالعجز ، يسترد التدين إعتباره أيضا كضابط إيقاع أخلاقي بين البشر وإستثمار مواردهم ومصادر قوتهم ، ، فهو ليس التدين الذي يقسم البشر وينشر الكراهية بينهم ، ويحرض على الحروب والقتل ، بل التدين الذي يردع عن كل أذى وينهي عن كل إستثمار للعلم بما يؤذي الطبيعة والبيئة والإنسان ، و التدين الذي يشجع على توظيف عقل البشر وعلومهم لتحقيق المزيد من رفاهم وخيرهم وصحتهم ، بضوابط الأخلاق والقيم ، ويدعو لكل ما يسهم بضبط إقتصاداتهم بمعايير الخير العام ومحاربة الفقر وإحقاق العدل ، ورفع الظلم والإحتكار والإستغلال عن رقابهم وموارد رزقهم ، تحت سؤال كبير يتربط بزمن كورونا ، عن ماذا نفع المال والعلم والسلطة أصحابهم ، ليضمنوا أنهم من الناجين ، خارج مشروع بشري للنجاة معا ، تاهوا عنه وأضاعوه بوهم أنهم قد إستغنوا ، وأنهم يسيطرون على مصادر الخطر ومكامن القوة .
عندما يربط السيد أطروحته بعقيدة الظهور والمهدوية ، فهو لايغفل أبدا عن وضع المعيار أمام الناس بالعمل في مواجهة التحدي الواقعي ، وهو هنا لا يطرح تحديا غيبيا أو دينيا ، بل يعتبر القرب من ملاقاة الغيبي والديني هو بدرجة القرب من مداواة جروح الناس ، والسعي لخيرهم ، وتأمين أسباب الحياة الكريمة لهم ، وتوفير شروط الصمود لعائلاتهم بإنتظار نجاح البشرية في إلتقاط أنفاسها وإيجاد علاج أو وقاية يتيحان الخروج من النفق المظلم .
كلمة السيد نصرالله في مناسبة دينية ، لكنها محاولة لملاقاة الأسئلة الكبرى التي تجتاح البشرية ، من موقع المتغير الكبير الذي رافق هذه الجائحة العالمية ، ومحاولة للتأسيس لمفاهيم ، ركيزتها ثقافة الإنسانية القائمة على الخير والتواضع والعمل ، وهي ببعدها اللبناني الذي قد لا يكون اليوم ظاهرا بقوة لكنه لن يتأخر عن الظهور كثيرا ، فمعايير ومقاييس إختيار رجال ونساء الشأن العام في بلدنا ، لم يعد ممكنا أن تبقى بمعايير الماضي ، حيث السلطة لصاحب المال ، والمال لصاحب السلطة ، وهي دعوة للتفكير على نطاقنا الضيق ، من ضمن التفكير البشري على النظاق الأوسع بنظام عالمي جديد ، أي نظام لبناني جديد سيولد من رحم هذه المواجهة مع تحدي جائحة كورونا ، فاليوم سيتقرر مصير مستقبل دور أصحاب المال ، ومثلهم مصير الزعامات العريقة والعتيقة ، واليوم سيتقرر مستقبل دور المثقفين وجمعيات العمل الأهلي ، ومستقبل الحكم على تجارب الأحزاب ، ومعايير قيام الحكومات والحكم عليها ، والشعب الذي يعيش هذه المحنة الصعبة لا بد أن يخرج منها وقد تعلم الكثير الكثير .