- تباينت أراء علماء الإجتماع الأوروبييين والعرب في تحديد جذور النظريات التي صاغها العلامة التاريخي اين خلدون حول علم الاجتماع السياسي ، في تعامله مع ظواهر نهوض الدول وتفككها وافولها ، لكن قراءة نصوص ابن خلدون في الزمن الأميركي الحالي سيجعل القارئ يعتقد انه كتب نصوصه لتفسير ما يجري اليوم في أميركا ، حيث العقل نسبة التطابق في رسم الظواهر التي يشير اليها ابن خلدون عن حدود ، ليبدو بعضها أقرب للنبؤة .
- مع المشاهد التي طواها يوم أمس لرحيل الرئيس السابق دونالد ترامب ، ودخول الرئيس الحالي جو بايدن الى البيت الأبيض ، ينصب الإهتمام في المنطقة والعالم حول السياسات الأميركية الجديدة ، وقدر من النقاش حول ظاهرة ترامب التي ستبقى حاضرة في خلفية المشهد الأميركي ، والتنافس السياسي الذي سيحكم اللعبة الاميركية في استحقاقات انتخابية قادمة ، من الانتخابات النصفية للكونغرس بعد عامين ، والانتخابات الرئاسية القادمة بعد اربع سنوات ، وقبلهما مصير الملاحقة القضائية التي سيشهدها مجلس الشيوخ بحق ترامب .
- السؤال الجوهري الأبعد مدى ، هل ان ما تشهده أميركا هو أزمة سياسية ، أم أزمة بنيوية ، أم اكثر بداية افول الإمبراطورية ، والجواب بالإعتقاد ببدء نهاية العهد الإمبراطوري الأميركي قد يبدو مبالغة بنظر الكثيرين ، ويبدو تغليبا للرغبات على الوقائع ، لكن التدقيق المنهجي البعيد عن ضجيج السياسة سيفتح العين على حقيقة أعمق من الخطاب السياسي ، والرؤية الاقتصادية ، ومتانة المؤسسات ، ومفهوم الدولة العميقة ، وعناوين السياسة الخارجية ، وكلها أمور غاية في الأهمية ، لكن ما يفوقها أهمية اليوم في مقاربة ما يجري في أميركا ، حضاري وثقافي واجتماعي قبل ان يكون سياسيا واقتصاديا وعسكريا .
- يرسم ابن خلدون مسارا لنهوض الدول ، والأصح هو الإمبراطوريات وليس كل الدول ، بوجود عصبية تشكل أساس مشروع الدولة ، ونجاح العصبية بإمتلاك القوة اللازمة الإمساك بالسلطة ، ثم قوننة سيطرتها بمشروع دولة وأمة ، ينجح بإقناع من يسميهم بشعب الدولة والأمة بالإنضواء في هذا المشروع ، وتوفير فرص المتاجرة والمصانعة والرزاعة ، والنشاط الثقافي والتعليمي الفني ، وبث الأمل بجدوى النشاط ودوره في توفير التقدم في السلم الإجتماعي والسياسي وفقا لمعايير مستقرة ، قانونية ، ويؤسس هذا النهوض الأرضية للتوسع عبر الغزوات ، وزيادة مصادر الثروة والمهابة ، فتنتشر وسائل الرفاه ويزداد الطلب عليها فتنشأ أنشطة اقتصادية جديدة ، واستهلاك جديد ، حتى بلوغ مرحلة تجتمع فيها حالة العجز عن المزيد من التوسع مع اختلال استقرار قواعد الصعود والهبوط في السلم الاجتماعي ، وانتشار الترف المبالغ فيه مقابل ظهور الفقر الشديد ، دون معايير تتصل بالنشاطالاقتصادي ، فيموت الامل ، وتتراجع المهابة مع تمرد الأمصار ، اي مناطق السيطرة في الخارج ، وتظهر المبالغة في الانفاق على الجيوش وتستنزف الموارد ، وينتشر الوباء ويتفشى ، فيتجمد الاقتصاد ويضمر، وتنقسم العصبية على نفسها ، ولا يعود الشعب الذي قبل مشروعها لبناء دولة وامة راضيا ، ولا يجد التجار والصناعيون الأمن لمواصلة نشاطهم ، وتكون بداية أفول الامبراطورية .
- من يقرأ مسار انهيار الإتحاد السوافياتي سيجد الكثير من التقاطعات مع السياق الذي رسمه ابن خلدون ، حيث الحزب الشيوعي وفرعه الروسي هو نواة العصبية ، ومن يقرأ المسار الأميركي اليوم سيجد تقاطعات أكثر ، حيث نواة العصبية هي الجماعة الأوروبية البيضاء التي أسست الولايات المتحدة الأميركية ، والإشارة التي مثلها العصيان على نتائج الإنتخابات الرئاسية مسقوفا بإنقسام عامودي حاد بين عشرات الملايين المصطفين على طرفي الصراع ، ليس إلا رأس جبل الجليد لبلوغ هذا المشروع الإمبراطوري مرحلة الإستنفاد التاريخي وبدء الأفول ، فالعصبية لم تعد راضية بقواعد هي وضعتها لمشروعها للدولة والأمة ، وتريد الإنفراد أكثر بالسلطة والموارد ، والشعب الذي يشكله في الحالة الأميركية غير أصحاب البشرة البيضاء ، لم يعد راضيا بمواطنة الدرجة الثانية ، وكل شيئ في اميركا يقول انه خلال عقدين فشلت كل حروب اميركا ، وتزايد انفاقها العسكري ، وتراجعت الحماية الاجتماعية للطبقات الفقيرة التي توسعت وتضاعفت ، واختل نظام الصعود والهبوط بين طبقات المجتمع ، فخرجت من ازمات 2008 المصرفية والعقارية ، ظواهر فاحشة الثراء وشرائح واسعة من الفقراء ، وصار الحديث عن فقد الأمل شائعا وعن سقوط المعايير ، وانتشر التسلح ، وهبط مستوى الخطاب السياسي الى ادنى مستوياته اخلاقيا ، وانقسمت العصبية البيضاء بين اغلبية يمثلها عنصريون هم دعاة التفرد ، واقلية تتمسك بمشروع الدولة والأمة ، تقف وراءها فئات الشعب والأمة من غير البيض.
- بالمناسبة يعتقد ابن خلدون ان الوباء هو من علامات سقوط الدولة ، "الإمبراطورية " ، لأنه من ثمارالترف والتصرف غير المسؤول تجاه الثروات الطبيعية ، ويقول العلامة "وقوع الوباء سببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة… فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرئة، وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة… وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله، كثرة العمران ووفوره آخر الدولة".
- في وراية الكاتب احسان عبد القدوس "لن اعيش في جلباب أبي" ، اختصار لمعادلة نظرة الأغلبية البيضاء والأقليات من غير البيض ، على مساحة الولايات الأميركية ، حيث الآباء من البيض استثمروا على العهود المدنية لبناء اقتصاد قاعدته العاملة من غير البيض ، ووجد غير البيض من الآباء في شبه عدالة انجازا كبيرا بالقياس للعنصرية الدموية المفرطة ، أما الأبناء من الغالبية البيضاء ضاق عليهم ثوب العهود المدنية مع ضيق الموارد وتراجع النهوض ، والأهم الشعور بالقلق الديمغرافي وخطورة انزلاق السيطرة على الدولة من بين ايديهم بسبب تشريعاتهم هم لإدارتها ، ويتحدثون عن هذه الدولة بصفتها دولتهم ويستضيفون فيها آخرين ، بينما ضاق ثوب الآباء بين ابناء غير اصحاب البشرة البيضاء وما عادوا يقبلون بالفجوة بين المدنية والعنصرية ، وترجمتها بقلق وجودي مع تصاعد دعوات تطهير عرقي وتطرف ميلشيوي ، وتراجع الفورة واتساع التفاوت في الوصول لوسائل الرفاهية ، وقبلها ضمانات العيش .
- الولايات الأميركية المتوازنة عدديا بين مكوناتها من البيض وغير البيض ستكون مسرحا لمواجهات دموية لن تنفع معها تعويذات بايدن ، والولايات التي تسودها أغلبية من احد الطرفين ستنظم امورها على هوى الأغلبية العرقية ، وستضعف قبضة السلطة المركزية ، وستشهد مشاريع إستقلال لبعض الولايات ، والى ان ينتهي عهد الوباء ستترنح الإمبراطورية .
2021-01-21 | عدد القراءات 3092