بضعة دقائق في رأس الرئيس بوتين
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
- يقول أحد الجنرالات المخضرمين العارفين بقوانين الحرب والذين شاركوا في صناعة بعض من معاركها ، أن ثلاثة قرارات اتخذها الجنرال فلاديمير بوتين تحتاج شجاعة استثنائية يصعب أن يمتلكها قائد عسكري أو سياسي ، الأول هو قرار بدء الحرب في ظروف جيوسياسية شديدة التعقيد ، فالرئيس بوتين كان يعلم أنه يدخل غمار حقل شوك مليئ بالمفاجآت والإحتمالات ليس ما جرى إلا بعضا منها ، وقرار الحرب على أوكرانيا يعادل عام 1961 قرارا أميركيا بغزو كوبا ، بينما الظروف ليست معكوسة ، فلا روسيا هي أميركا الستينات القوة التي يمكن لأحد مواجهتها ، ولا أوكرانيا هي كوبا المحاصرة والضعيفة ، والثاني هو قرار تفعيل الأسلحة النووية ورفع جاهزيتها الى مستوى التأهب ، وهو قرار يعادل الإستعداد لدخول حرب نووية ، لم يسبق أن فعله أحد آخر ، حتى أميركا والإتحاد السوفياتي في مرحلة النزاع حول الصواريخ السوفياتية في كوبا وما عرف بأزمة الخنازير بقيا على مسافة من مثل هذا القرار ، والقرار الثالث هو إعلان الإنسحاب من المحور الرئيسي للهجوم الروسي الذي استهدف العاصمة كييف ، وكان على مقربة من قلبها ، واتخاذ القرار من طرف واحد بما فيه من مخاطرة بالاضطرار للعودة لاسترداد المناطق التي تم الانسحاب منها بكلفة أعلى ، وما فيه من فرص للخصوم لتصويره هزيمة للجيش الروسي واعترافا بالفشل ، هو قرار يصعب على قادة عسكريين وسياسيين كثيرين إتخاذه .
- التجول الإفتراضي لبضعة دقائق في عقل الرئيس بوتين يبدو رحلة مغرية ، لمحاولة استكشاف ما يدور في عقل هذا الرجل الذي تدور على طاولته وبين يديه ، خرائط العالم الجديد ، وتتوقف على تواقيعه مصائر الكثير من السياسات والحسابات والحروب ، وهذا التجول الافتراضي هو حصيلة حوار ممتع للتداول في الفرضيات التي وضعها الرئيس بوتين لدى رسم سياق حربه واتخاذ قراراته ، جرى مع صديق خبير بطريقة تفكير الرئيس الروسي من جهة ، ومتابع لتفاصيل السياسات الدولية والحروب المعاصرة ، وصراعات الطاقة والجغرافيا السياسية المندلعة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين ، من جهة مقابلة ، وتبدأ الرحلة من السؤال الأهم ، ماذا يريد الرئيس بوتين ، وماذا يخشى ؟
- تبدأ الخلاصة الأولى بالإكتشاف الخطير ، وهو أن الرئيس بوتين لا يخشى الحرب النووية وهو واثق من كسبها إذا اندلعت ، وهو يعتقد أن الخوف منها سيتسبب بالذعر السياسي ودفع أثمان بلا طائل تحت شعار تفاديها ، وأن الحرب النووية اذا كانت ضمن خطة الطرف الغربي المقابل فسيكون دفع العبودية الكاملة ثمنا لتفاديها هو الطريقة الوحيدة لإستبعادها ، واذا لم تكن ضمن مشروع الغرب ، فان الاستعداد لها وعدم خشيتها لن يدفعا بالغرب نحوها ، بل سيجعلانه مستعدا للتفكير بجدية وعقلانية ، باستحالة الجمع بين تفاديها وممارسة الهيمنة العبودية على العالم دولا وشعوبا ، ورفض الأخذ بمعايير موحدة لمقاربة القضايا الدولية الشائكة والمتراكمة ، والتي تشكل علاقة الشرق بالغرب أهمها ، ومحورها الرئيسي ، ولذلك فإن الرئيس بوتين حسم أمر عدم الخشية من الحرب النووية مبكرا وإتخذ الإستعدادات العسكرية وغير العسكرية التي تتيح له الخروج منها منتصرا ، معتبرا أن هذا هو أقصر الطرق لمنع وقوعها ، وأنه التعبير الأسمى عن الحس الإنساني بالسعي لتفادي الخراب الذي ستحمله للعالم ، وهذه القناعة هي التي كانت وراء انفاق مئات مليارات الدولارات على تطوير الأسلحة الإستراتيجية التي لم يكشف الا عن القليل منها ، لكن الغرب يعرف ويعترف بأن روسيا للمرة الأولى تسبقه على هذا الصعيد بعشر سنوات .
- إذا كان الأمر الأول هو ما لا يخشاه الرئيس بوتين فما الذي يخشاه ، الذي كان يخشاه الرئيس بوتين ، هو أن ينجح الغرب بصياغة مواجهة ذكية تفكك العلاقة بين مستويات الحرب الثلاثة ، المستوى الأوكراني الأوكراني ومحوره التعامل المنصف قانونيا وإنسانيا وثقافيا ولغويا مع الأصول الروسية ، لأن هذا هو محور قضية دونباس ، العنصرية المبنية على هوية غربية شوفينية تجاه كل ما يمت لروسيا بصلة بالدم او الدين او اللغة ، والمستوى الثاني هو المستوى الإقليمي ، ومحوره التوازن الأمني في أوروبا بين روسيا ودول الناتو ، وكانت رسالة موسكو لطلب الضمانات الأمنية من واشنطن ، تتضمن عرضا وافيا لمضمون عناوينه ، وقضية أوكرانيا وانضمامها للناتو كانت رأس جبل الجليد في هذا الملف ، والمحور الثالث هو مستوى العلاقات الدولية وسعي روسيا لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب صرح المسؤولون الروس مرارا عن فهمهم له وسعيهم إليه ، وهذا المحور هو الإطار الحاضن عمليا وسياسيا واستراتيجيا لكل تفاصيل وسياقات الحرب الأوكرانية من الزاوية الروسية ، ويعتقد الرئيس بوتين أنه لو نجح الغرب بفك التشابك بين هذه المحاور ، فبادر عبر الحكومة الأوكرانية بإعلان الإنفتاح العملي على مقتضيات إنهاء الحقبة العنصرية بحق ذوي الأصول والمتعلقات الروسية ، وشجع على التفاوض حول حياد أوكرانيا ، كترجمة طبيعية للتسليم باستحالة ضمها إلى الناتو ، لنجح بحرمان روسيا من المنصة التي وفرتها الحرب للهم الإستراتيجي الأول لروسيا وهو إعادة صياغة العلاقات الدولية ، ولنجح الغرب بمحاصرتها كقوة إقليمية وحرمانها من فرصة لعب دور القوة الدولية العظمى ، التي تستحيل هزيمتها ، كما تقول وقائع ما بعد حزمات العقوبات الأشد قسوة ، وأزمات الطاقة والغذاء التي تدق أبواب العالم من أوروبا أولا .
- الحصيلة الأولى للجولة أن الرئيس بوتين يعتبر أنه نجح بفرض تفادي الحرب النووية بوضعها خيارا حاضرا على الطاولة ، وأن الغرب تصرف بحماقة وغباوة سهلت عليه مهمة جعل النظام العالمي الجديد محور الصراع ، بعدما زاد الربط بين محاور الصراع الثلاثة ، فبدلا من تفكيك السياسات العنصرية بحق ذوي الأصول والمتعلقات الروسية في أوكرانيا قام بعولمة العنصرية ضد الروس عبر ما حملته كل العقوبات الغربية ، بصورة استنهضت الوطنية الروسية إلى درجة غير مسبوقة تحت الشعور بخطر التهديد ، وجعلت حربهم الوجودية هي الحرب التي يخوضها بوتين ، ولو كانت الأثمان اعلى كلفة عما هي الآن بالأرواح وظروف المعيشة ، والروس دفعوا ملايين الأرواح وعمران مدنهم كلها تقريبا لاجتثاث عنصرية مشابهة مثلتها النازية التي ستحتفل روسيا بذكرى النصر عليها قريبا ، وبدلا من التشجيع على حياد أوكرانيا يتحدث الغرب عن ضم دولتي فنلندا والسويد المحايدتين إلى الناتو ، وبدلا من تحييد قطاعي الطاقة والعملات كنقاط ضعف غربية كان يجب عدم كشفها ، ذهب الغرب الى الملعب الذي يرغب به الرئيس بوتين لمنازلة الغرب وهو ليس الا في نقطة البداية بعد .
- قرار بدء الحرب وقرار تفعيل السلاح النووي كانا ترجمة لهذا الفهم ، وقد تحققت هذه الأهداف ، وقرار الانسحاب من محيط كييف ترجمة للاطمئنان بأن المحور الثالث للحرب ، أي مستقبل العلاقات الدولية ، صار هو العامل الحاسم ، فمن الخطأ المساهمة بمنح البعد الأوكراني من الحرب أبعد مما يستحق ، والحرب لم تعد الا منصة مفتوحة لأسابيع أو شهور او سنوات ، حتى يتحقق الهدف ، وهو ولادة نظام عالمي جديد ، ومدة الحرب يقررها مدى مواصلة اوروبا محاولة الجمع المستحيل بين مصالحها الجوهرية والتبعية لأمريكا ، وما تظنه واشنطن لعبة عض على الأصابع تنتظر من يصرخ أولا ، هي في الحقيقة لعبة لحس مبرد ، فيها طرف يلاعب لسانه بالمبرد ويتلذذ بطعم دمه ، كحال أوروبا ، ومن يعض على الإصبع الأوروبي هو الأميركي وليس روسيا ، وروسيا تعض على الإصبع الأميركي من بوابة قدرة أوروبا على التحمل ، وقدرة أميركا على تخيل مستقبلها دون أوروبا ، وموعد الصراخ الأوروبي قريب ، ومثله موعد الصراخ الأميركي ، في عقل الرئيس بوتين معادلة ، مرتاح لمسار الأمور وفقا للخطة والتوقيت المقررين ، ومستعد لكل الإحتمالات ، لكن يصعب على الكثيرين فهم معنى ذلك بسهولة ، إلا عندما يراهم يجلسون الى طاولة التفاوض لمناقشة ما هو أبعد من أوكرانيا والأمن الأوروبي وأمن الطاقة ، لرسم قواعد جديدة للعلاقات الدولية تثق موسكو ويثق الرئيس بوتين أن مكانة موسكو فيها ستكون حاسمة ومقررة .
2022-04-22 | عدد القراءات 1835