نقابة المحامين والتحوّل في الرأي العام اللبناني

ناصر قنديل

– كانت نقابة المحامين دائماً أهم النقابات المهنية التي تشهد التعبير الأشدّ قوة عن التحولات التي يعيشها الرأي العام اللبناني، ونخبه المسيّسة الناشطة في الشأن العام بصورة خاصة. فالمحامون على صلة مباشرة بقضايا وعناوين القانون والدستور والحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، والنقابة شريك دائم مع القضاء في معادلة العدالة. وفي انتخابات نقابة المحامين تظهر خصوصاً التوازنات السياسية ومراحل التغيير التي تشهدها، فأحزاب كالكتلة الوطنية والكتائب والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، كانت تقيس صعودها وأزماتها بحجم تأثيرها في انتخابات نقابة المحامين، باعتبار أن ثقل الحضور المسيحي يبقى العامل الحاسم في بنية النقابة وانتخاباتها، لكن بصفته تعبيراً عن توازن عابر للطوائف دائماً عبر شبكة التحالفات التي تشكل شرطاً لحسم النتائج في النقابة.

– هذه المرة كانت الانتخابات في نقابة المحامين حدثاً وطنياً بامتياز في التعبيرات والمعاني التي قدّمتها، فشخص النقيب الجديد ملحم خلف كناشط منذ العام 85 في جمعية فرح العطاء تحت شعار السلم الأهلي والوحدة الوطنيّة، ولاحقاً كناشط قانوني وحقوقي متمسك بقيم القانون والحرية والديمقراطية، لم يكن كافياً لتحقيق النتيجة التي أوصلته إلى منصب النقيب لولا شرطان رئيسيان: الأول الحراك الشعبي الذي ولّد دينامية بين النخب التواقة للتغيير، وجدت صداها في صفوف المحامين وكان خلف واحداً من رموز الحراك ومرشحاً نقابياً يملك فرصاً حقيقية للمنافسة، والثاني التراجع الكبير في قدرة التكتلات الحزبية على التماسك وراء خيارات نقابية واضحة، تنسج لها التحالفات وتحشد لها المناصرين والناخبين. وكل من الأمرين تعبير عن تحوّل كبير يشهده الرأي العام اللبناني.

– مضمون هذا التحوّل لا يتصل فقط بالأزمة الاقتصادية والغضب الشامل لشرائح المجتمع تحت تأثيرها، وللمحامين حكماً نصيب من تأثيرات الأزمة، بل أيضاً بتداعيات الأزمة العميقة للنظام السياسي والثقافي والقانوني، الذي تشكّل الطائفية مرضه العضال. والامتحان الأهم الذي تواجهه نقابة المحامين مع التحوّل الجديد هو في قدرتها على قيادة العبور فوق جسر آمن للخروج من الطائفية بقانون انتخاب جديد، كانت نقابة المحامين دائماً شريكاً غير رسمي في إنتاج نسخته السجالية للنسخة التي تنتجها توازنات السلطة لكن في ظل الطائفية. والامتحان الثاني يتمثل في قدرة النقابة على قيادة مشروع إنشاء السلطة القضائية المستقلة التي تشكل ضمانة العدالة الرئيسية، كمسؤولية مهنية للنقابة، ومسؤولية وطنية في آن واحد.

– النقيب الجديد الذي فاز في معركة نقابية ديمقراطية بامتياز، سيحمل الكثير من الأعباء في ترجمة موقعه المشترك بين النقابة والحراك، في امتحان القدرة على عبور آمن فوق جسر آخر، بغياب قيادة معترف بها للحراك، لضمان تفاوض عقلاني دستوري، وليس انقلابياً يأخذنا للفوضى، يمهّد للخروج من الأزمة الخانقة التي يفرضها الاستعصاء الناتج عن توريط الحراك في اللعبة السياسية من بوابة استقالة حكومة وتشكيل حكومة، وخطورة تحوّل الحراك أداة ضغط تفاوضية في لعبة تشكيل الحكومات بين مكوّنات السلطة، بدلاً من توليه مسؤولية فرض التحوّلات الكبرى في البنية القانونية للدولة، سواء في مكافحة الفساد أو في إلغاء الطائفية. والمدخل واضح، قانون انتخابات وفقاً للمادة 22 من الدستور، وتكريس السلطة القضائية المستقلة، وكلها نصوص واستحقاقات مؤجلة منذ اتفاق الطائف.

– من المهم أن لا تغرق الأحزاب في القراءة التقنية للفشل الانتخابي، وفي صدق التحالفات بالوفاء بالتزاماتها، وأن تتوقف ملياً امام الدروس المستقاة والتي تعبّر عن تحوّل حقيقي، خصوصاً في البيئة النخبوية للأحزاب عموماً والمسيحية خصوصاً، وعنوانها نهاية زمن التنافس على شدّ العصب الطائفي، ومن المهم أيضاً ألا تستغرق المجموعات غير الحزبية بالمبالغة في قراءة النتائج كتعبير عن نجاح خاص بها قابل للتعميم، بمعزل عن قراءته كتحوّل لصالح الخيار اللاطائفي، ولصالح دولة القانون، سيسقط مَن حملوا رايته إن تهرّبوا من الاستحقاق الذي حمله سواهم قبلهم، وسقطوا لأنهم تخلّوا عنه لصالح حسابات سياسية أو طائفية.

2019-11-18 | عدد القراءات 3343