منذ تسلل شعار إستقالة الحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط ليصبح شعار الحراك الشعبي ، كان لدينا القناعة وكتبنا ، أن المسلسل المرسوم سيمر بحلقات تستكمل بتبني الرئيس سعد الحريري لدعوة الإستقالة ، ولو تمت تلبية كل طلباته بعد تهديده بالإستقالة ما لم تقبل هذه الطلبات من شركائه في الحكومة ، كما قال عندما حدد مهلة الإثنين وسبعين ساعة ، وكان السؤال يومها ، هو السؤال اليوم ، ما الذي تغير بين إقرار الورقة الإصلاحية التي أعلنها الحريري بلسان الحكومة ، وبين إعلان الإستقالة بعد اسبوع ، واليوم ما الذي تغير بين بدء الرئيس الحريري بتسمية سواه لرئاسة الحكومة ، الإسم تلو الإسم ، وبين ساعة تتويجه رئيسا محتملا وحيدا لرئاسة الحكومة من دار الفتوى ؟
قد يكون من الظلم للرئيس الحريري الحديث عن خطة كان يعمل وفقا لها ، وقام خلالها إستهلاك أسماء أصدقائه المقربين كمرشحين محتملين لرئاسة الحكومة ، لكن من غير الإنصاف للحقيقة القول أن الرئيس الحريري كان عازفا عن تسميته ، أو أنه لم يكن يتمنى أن تأتي ظروف مناسبة ليتراس هو بنفسه هذه الحكومة ، وبالتلي فإن ثمة ما لم يكن متاحا له في البدايات ، وصار متاحا اليوم ، سواء في الصورة الداخلية المحيطة بتشكيل الحكومة أو في الصورة الخارجية السياسية والتمويلية ، التي يرتبط بها نجاحه في تشكيل الحكومة بداية وفي مسيرة عملها لاحقا .
في الأيام الأولى للإستقالة كان الإشتباك في ذروته حول طبيعة المرحلة ، بين القوتين الرئيسيتين المتقابلتين حول ما ينتظر لبنان ، فواشنطن ومعها مشاركات وإنتظارات غربية وعربية كانت تقرأ المشهد بعين التلويح على حافة الهاوية بخطر الإنهيار ، ورفض اي مساهمة منها أو من سواها في تعويم لبنان ماليا ، وترى في ذلك فرصة لمحاصرة حزب الله وحلفائه ، كما تراها فرصة للتقرب من إيران التي كانت الإضطرابات قد بدأت فيها ، وإعتقد كثيرون في واشنطن أن الوقت ليس للتسويات بل للتصعيد ، وتجمد الوضع الغربي والعربي عند خطها الأحمر ، فتراجع الحريري عن السير بالورقة الإصلاحية وإستجاب لنداء الإستقالة ، وترجم الحريري شعوره بأن الوقت ليس مناسبا لتولي رئاسة الحكومة ، بتداول أسماء يعرف عدم جديتها ، بنظر شركائه في الحكم منذ البداية .
المرحلة الثانية جاءت مع تسمية الحريري لكل من الوزيرين السابقين محمد الصفدي وبهيج طبارة تباعا ، بعدما كانت صورة الأحداث في إيران تتوضح ، ويسقط الأمل بتوظيفها في مشروع مواجهة ذات جدوى ، بينما ظهر داخليا أن حكومة تكنوسياسية هي الحد الأدنى الذي يمكن السير فيه مع الشركاء الآخرين ، وخصوصا حزب الله وحلفائه ، فيما كان الحريري قد صعد الشجرة عاليا ولم يعد ممكنا له النزول بسرعة عن سقف حكومة تكنوقراط خالصة بسهولة ، فدخل التفاوض بالواسطة عبر الأسماء التي رشحها ، وقطع مراحل من الإختبارات لما هو ممكن ، وما هو غير ممكن ، ونجح في بلوغ مراحل لم يكن واردا تحصيلها بدون هذا السيناريو .
المرحلة الثالثة مع المرشح سمير الخطيب كانت الوحيدة التي تتسم بالجدية وفقا لما نتج عن المفاوضات التي رافقت مرحلتي الصفدي وطبارة ، وكانت حسابات الحريري قائمة على ركنين ، الأول يتصل بالحاجة لمرحلة إنتقالية دوليا وعربيا ولبنانيا لبدء تدفق الأموال ، ومرور فترة صعبة وقاسية ماليا ، يفضل الحريري أن يقودها عبر سواه ، ليعود لرئاسة الحكومة بعد تخطيها ، وبدء التدفقات المالية الموعودة ، والثاني هو تقدير الحريري لفرصة الإفادة من علاقات الخطيب المباشرة بسورية او من الدعم الذي سيلقاه من المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم ، لتجاوز القطيعة التي فرضها الحريري بين رئاستي الحكومتين في البلدين ، وقد باتت الملفات الإقتصادية المتراكمة تتطلب ذلك ، بإنتظار المصالحة بين سورية والسعودية التي تتيح للحريري التقدم بعد حدوث التمهيد المطلوب من الخطيب ، ومعه ترتيبات المشاركة الموعودة في إعادة إعمار سورية .
الذي حدث أن مؤشرات إزالة الخطوط الحمر الأميركية تسارعت بوتيرة غير متوقعة لجهة النظرة للمنطقة ، وجاء مؤشر بتبادل الإفراج عن السجناء بين الحكومتين ، ترجمة لتفاهم يشبه التفاهم الذي بشر به الإفراج عن الرهائن الأجانب في لبنان في نهاية ثمانينات القرن الماضي ، ومهد لحرلة كان عنوانها مؤتمر مدريد وإتفاق الطائف وحرب الخليج ، وكانت كل من سورية وإيران شريكتان في هذه المرحلة ، فالكلام السعودي عن قرب الحل في اليمن ليس بعيدا عن اذن الحريري ، ونجاح مهمة وزير خارجية عمان في طهران وإعلانه التحضير لمؤتمر لأمن الخليج بموافقة ومشاركة سعودية وإيرانية ، تشارك فيه كل الدول المعنية بأمن الخليج ، ليس بعيدا عن عين الحريري ، والإجتماعات التي شهدتها وستشهدها باريس حول لبنان ، تقول في السياسة بحكومة يشترك فيها الجميع ، ووعودها بالأموال ليست بحاجة للإنتظار الطويل .
نزل الحريري عن الشجرة وطلب رئاسة الحكومة لنفسه بلسان دار الفتوى ، لكن الإخراج لم يكن موفقا إلآ إذا كان تمهيدا لتسجيل سابقة ضرورة حصول المرشح لرئاسة الجمهورية على ترشيح بكركي ؟