لعبة المقامر الأميركي مع صانع السجاد الإيراني نقاط على الحروف
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
يخطئ من يظن أن واشنطن تعمل وفقا لإستراتيجية فيحاول عبثا ربط الأجزاء المتناثرة لخطوات الرئيس دونالد ترامب آملا أن ترسم له خطا بينانيا يستنتج منه ملامح إسترتيجية اميركية ، فالثابت الوحيد في السياسات الأميركية هو التخبط بين عجزين علقت بينهما واشنطن ولا تجد منهما مخرجا ، والخطوات الكبيرة بحجم إشعال حريق في مخزن بارود ليست تعبيرا عن إقتدار كما يرغب أن يراها كثيرون تعبيرا عن تخطيط كبير يتناسب مع حجم مخاطرها ، فغالبا ما يقدم عليها يائس يريد ان يلعب لعبة خاسر خاسر بعدما فشل عرضه على الغير برابح رابح ، خاصة أن الأميركي العالق بين عجزيه الرئيسيين وهما العجز عن خوض الحرب الشاملة والعجز عن التسوية الشاملة ، محاصر بعجز ثالث هو عجزه عن تسوية لا تضمن أمنا لإسرائيل المحاصرة بعجز أكبر سواء عن خوض الحروب أو صناعة التسويات ، مع فارق أن قدرها سيكون بالتعايش معهما هو التآكل والإهتراء ، لأنها لا تستطيع الإنسحاب كحال أميركا ، فتجعل الوجود الأ ميركي في المنطقة رهينة أمنها .
حاول الأميركي خلال عامين مقايضة إنسحابه بإنسحاب إيران وقوى المقاومة من سورية ، وكان المفاوض الشهيد القائد قاسم سليماني ، وكان الرفض القاطع ، وصار الأميركي عالقا بين عجزيه في عنق زجاجة ، لا يستطيع التقدم ولا التراجع فراهن على إستعمال أوراق الضغط لإنضاج شروط تفاوض أفضل ، وإستثمر على الأوضاع الإجتماعية والمالية في إيران ولبنان والعراق ، ولم يصل لما يرغب ، فقرر المقامرة ومضمونها أن ثمن الإنسحاب الذي لم يدفع من محور المقاومة يجب تحديد سعره الأعلى وإنتزاعه بالقوة ، طالما أن المعادلة ليست الذهاب لحرب شاملة ، وطالما أن الإنسحاب حتمي ، والثمن هو تدمير قادة وبنى المقاومة خصوصا في العراق ، قبل الرحيل ، لإستبدال معادلة رابح رابح التي عرضها بإعتقاده عبر الإنسحاب المتزامن والمتوازي من سورية ، بمعادلة خاسر خاسر ، ليمنح غسرائيل شروطا أفضل لمواجهة الأخطار ، وجاءت الغارة على قاعدة الحشد الشعبي على الحدود السورية العراقية وتلتها ضمن خطة واحدة عملية إغتيال القائد قاسم سليماني والقائد أبو مهدي المهندس ، وربما يكون ضمن الخطة ضربات لاحقة مشابهة ، وإستعداد لتحمل أثمان ردود تنتهي بالإنسحاب بعد إلحاق اذى جسيم بقوى المقاومة وقدراتها وهيكليتها وحجم ما تشكل من خطر على أمن إسرائيل .
نقطة الضعف الرئيسية في الخطة الأميركية أنها مخالفة لقواعد الإستراتيجية والتكتيك عسكريا ، فعلى الصعيد افستراتيجي لا يجوز الإقدام على خطوات بحجم التي أقدمت عليها واشنطن ، دون الجهوزية الإحتياطية لخوض حرب ، وعلى الصعيد التكتيكي يجب التحسب لعدم إستجابة الخصم للتوقعات التي رسمت على اساسها سلسلة الضربات في المكان والزمان والنوع والكم ، وسلوكه خيارات مفاجئة لا تلبي قواعد العبة المرسومة إفتراضيا ، ولذلك لا يمكن وصف العملية الأمنية الأميركية المتدحرجة التي بدأت بغارات منطقة القائم الحدودية ، إلا بالمقامرة ، فالمقامر خصوصا عندما يكون خاسرا ، يرفع سقف رهانه بدل الإنسحاب بأقل الخسائر ، ويراهن على آخر دورة للدولاب ، ويبقى يتوقع أن يصيب الرهان ويستعيد الخسائر ويحقق الرباح ، وغالبا ما يلعب بكامل الرصيد ، وهو يخوض مقامرته خطوة بخطوة بلا خطة ، وبالمناسبة هذا النمط السلوكي هو مكون ثقافي أميركي يستمد وضعه كموروث بنيوي من زمن المافيات وأندية القمار وعصابات شراء سندات الدين التي تحولت لاحقا في وول ستريت إلى بورصة ، وحملت معها العشوائية والعنجهية والتسرع وسرعة التخلي والتأقلم مع الخسارة وعدم التوقف أمام معايير الكرامة والشرف .
مقابل الأميركي المقامر يقف صانع السجاد ، وهو بكل المعنى التاريخي شخصية إيرانية موروثة نموذجية تحاكي كل النمط الثقافي الإيراني في المستويات كافة ، ثقافية وإقتصادية وسياسية وعسكرية ، وصانع السجاد يتقن مزج الألوان ، وحبك القطبة المخفية ، ودقة إتباع الخطوط والمنحنيات ، ويحيك أكثر من سجادة معا ، ويملك حس السيطرة على الزمن فالصبر عنده أسلوب حياة ، والثقة بالسعر المناسب لا ينال منها العرض والطلب ، فالسجادة الجيدة تبيع نفسها وإن لم يأت من يقدر قيمتها السنة فسياتي ذات سنة وليس بالضرورة السنة القادمة ، والسجادة الإيرانية التي نجحت بأن تمتد من طهران إلى بغداد إلى دمشق فبيروت ، وأن تتوسع نجو جنوب المنطقة في اليمن ، هي سجادة متينة متقنة ثابتة مقتدرة ، تحتضن مأ اصاب خيطها المقطوع وتعيد الوصل بقطبة مخفية ، ويدرك الحائك الماهر أن قطع خيط محوري في النسيج لا يجب أن يصرفه عن مواصلة الحياكة ، فيربط الخيط بقبطته التي لا ترى ويواصل ، ويفاجئ ان السجادة المرصودة لبلوغ القدس قد صارت على المشارف ، وهذا ما يفكر فيه الإيرانيون ومعهم محور المقاومة اليوم ، كيف يكون دم الشهيد القائد سليماني فرصة لٌلإقتراب أكثر من فلسطين ، وجعل أمن إسرائيل اشد إنكشافا ، وفيما ينتظر الأميركي ردا يؤلمه أكثر سيجد ردا يخرجه بخسارة لا تحتمل ، وهذا هو الألم العظيم ، أن تكتمل السجادة التي شكل سليماني خيطا محوريا فيها نحو القدس .