عندما يكون العنف الذي تشهده التظاهرات منذ يومين ، ناتجا عن محاولات إقتحام مقرات رسمية لإحراقها وتكسير محتوياتها ، فقرار الصدام متخذ عند المجموعات التي تقود المتظاهرين وتزجهم في هذه المواجهات ، وليس نتاجا لعنف الأجهزة الأمنية ، وعندما نسمع المتحدثين بلسان المجموعات المنظمة والإعلاميين المؤيدين لها عن الإنتقال من مرحلة السلمية إلى مرحلة العنف ، لا يعود من معنى للقول أن الغضب هو الذي يولد العنف ، خصوصا أن العديد من المشاركين في هذه الأعمال يأتي مزودا بعتاد مناسب لذلك ، ونسبة غير قليلة منهم تنتمي لبقايا من المعارضة السورية ، وبعض الجماعات المشبوهة التي ظهرت في قيادة قطع الطرقات ، والتي اضطرت جماعات مشاركة وفعالة في الحراك إلى التبرؤ منها .
اللجوء إلى العنف هو قرار ، وهذا القرار لا يمكن أيضا تفسيره بصفته طريقا لفرض مطالب ، لأن أي حساب بسيط للموازين السياسية والميدانية سيصل لنتيجة إستحالة قدرة مجموعات على فرض روزنامة لا تمتلكها للتغيير بواسطة أعمال التخريب ، ولا يعوض هذا العجز محاولة دغدغة المؤسسة العسكرية بشعارات إنقلابية لا يمكن أن تلقى صدى ، ومعلوم أن أعمال التخريب لا تلقى قبولا شعبيا لتحتمي به ، رغم كثرة الحديث عن "ثوار" وعن "الشعب" في تبرير التخريب ، فمن يقرأ تاريخ الإنتفاضات الشعبية عبر التاريخ ويقارن بما يجري عندنا ، يكتشف بسهولة كيف أن الأيام المئة الأولى تتكفل بإنفضاض الشعب بسبب السقوف المرتفعة وغياب خارطة طريق واضحة ، والإبتعاد عن السعي لتحقيق تراكم واقعي في المكتسبات بالتناسب مع إرتفاع منسوب الزخم الشعبي ، فلا يبق إلا الفوضويون ودعاة العنف يعوضون بذلك ما بات مؤكدا لديهم من غياب التلبية الشعبية لنداءاتهم ، والشعب اللبناني الذي صوت في 17 تشرين أول ضد الحكم والحكومة والسياسيين ، بالنزول إلى الشارع ، يصوت منذ 17 كانون الأول ضد قيادة الحراك بعدم النزول إلى الشارع ، والتراكم السلبي بدأ مع قطع الطرقات وتوسع مع إدخال الحراك في متاهات الإنقسام السياسي والسعي لتوظيفه ، وركب موجته لتعديل التوازنات بين أطراف السلطة وليس بين السلطة والشعب .
هناك جوع وهناك تململ من التباطؤ في معالجة الملف الحكومي في أوساط الشعب ، لكن مثله هناك أسئلة عن الهوية الحقيقية للمشروع الذي يطل برأسه من المواجهات بإسم الشعب ، والحديث عن "ثورة" ، والأسئلة ترجمت ذاتها بخسارة الجماعات التي تقود المواجهات القدرة على تحشيد الناس ، فنحن أمام جماعات منظمة بالمئات على ضفتي اليسار الذي يواجه المصارف ، واليمين الذي ينقل المعركة إلى ساحة النجمة ، وإن كان هناك بعض من التعاطف الشعبي فهو محصور بالشباب الذي يحتجون أمام المصارف والمصرف المركزي ، بعدما تعرض الناس للإهانة والإذلال في هذه المصارف ، إضافة لوضع اليد على حريتهم بالتصرف بودائعهم .
العنف الذي يجري الإصرار على تقديمه كعنف ثوري وليس كرد فعل على عنف الأجهزة الأمنية ، أي التباهي بصفته مبادرة ذاتية من أصحابه ، يشكل محاولة لعرقنة الحراك اللبناني ، وما يجري في العراق واضح ، بدأ بالتخريب وتحول إلى إحراق المؤسسات العامة ، وتسللت تحت ظلامه مجموعات تغتال وتطلق النار بين المتظاهرين وعليهم ، وأمس سمعنا عن تسجيل صوتي لإنشقاق دركي ، تبين لاحقا أنه ملفق ، لكنها إشارة لإستنساخ تجربة التخريب الذي تعرضت له سورية ، بمعونة ذات الذين خططوا الخراب لسورية وفشلوا ، وكأن هناك من يمول ويخطط لتظهير إنشقاقات في الأجهزة الأمنية لنسمع غدا بدرك لبنان الحر ، وها هو الإستنفار الدولي حاضر ، وتختصره تدخلات سافرة للممثل الأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش ، مرة بالحديث حول حاكم مصرف لبنان كخط أحمر في رد فعل على عنف المتظاهرين امام المصرف ، ومرة بتبنيه المتظاهرين العنفيين في ساحة النجمة ، بربط العنف بغياب الحكومة .
العودة لسلمية التحركات الإحتجاجية وبقائها في الساحات هو حرص على تصحيح مسار الحراك بعدما إنحرف نحو تسييس غير مشروع ، وفوضى غير مشروعة ، ليستعيد ثقة الناس ويبقى عامل ضغط على الحياة العامة لتسريع الحلول وتصويب المسارات .