الإفلاس الفكري والسياسي أخطر من الإفلاس الإقتصادي والمالي نقاط على الحروف ناصر قنديل

نقاط على الحروف

ناصر قنديل

  • مشهد جلسة الموازنة يوم أمس أبعد بإشاراته من الجدل حول دستورية الجلسة أو حول مضمون الموازنة ، فالمشهد يحمل رموزا وإشارات تاريخية المعنى ، لجهة ما يسمى بأفول السياسة وعجزها في علم الإجتماع السياسي ، ففي الجانب الأول من الصورة لا أحد من المشاركين في الجلسة من المؤيدين والمعارضين ، قدم موقفه بصفته خيارا منطلقا من رؤيته الإيجابية ، أو من موقع أنه يملك حلولا للأزمات ، أو بفذلكة موقفه كتعبير عن قناعة يعتد بها ويدافع عنها بكل فخر ، فبدا الكل كالعروس المقهورة يوم عرسها ، تقول "ببكي وبروح" ، والكل في الجلسة يرتكب ما يراه معصية ولكنه يرى ان البديل "معصية بفضيحة مجلجلة" ، الذين أيدوا الموازنة فعلوا ذلك لأنها أفضل من لاموازنة ، والذين شاركوا بتأمين النصاب وعارضوا الموازنة أو إمتنعوا عن التصويت برروا ذلك ، بتفادي الفراغ ، والذين غابوا ورفضوا الحضور لم يكن لديهم خطاب بالأصل للقول أنهم يغيبون لأن بديلهم هو ، وتبقى هو بلا تتمة ، والحكومة التي حضرت تدرك أنها ليست موازنتها ولكنها لا تملك بديلا أفضل من الحضور وتمرير الإستحقاق ، والأنكى كان حال "الثورة" التي فقدت شعبيتها وحشودها بثلاثين يوما ، فيما إحتاج السياسيون ثلاثين عاما ليفقدوا وهج الناس وبريق إلتفافهم ، ومثل السياسيين ، لم يبق من الثورة إلا نواتها وعصبها ، فبدت هزيلة بذيئة كئيبة ، لأنها أخذت قوتها من ناس لم تكن أمينة على التعامل برفق ومسؤولية مع تفويضهم ، وإستعجلت لإسقاط أحقادها ومشاريع غيرها على غضب الناس ، فلما طلع عليهم الصبح وإكتشفوا الخديعة عادوا إلى بيوتهم .
  • هذه الصورة كما بدت أمس باهتة بفقدان الخطاب ، وفقدان الإيمان ، وفقدان الرؤية ، وبالنتيجة فقدان الحماسة ، حتى "الثوار" الغاضبين يفعلون ما يفعلون ، لأنهم لا يستطيعون البقاء بلا فعل والتسليم بموت الثورة ، والفعل الوحيد المتاح أمامهم جمع مئات يرشقون الحجارة ويرمون السباب والشتائم ، ويعودون بعد الظهر للحديث عن إفلاس الطبقة السياسية التي صاروا وجهها الآخر ، وحالهم كحال الجيش المهزوم العائد من الحرب ، وليس كجيش أتم جهوزيته للمنازلة التاريخية ، وهذه الصورة بكل أبعادها هي مبعث اليأس الذي يجتاح اللبنانيين والذي قد يدفعهم لقبول كل ما يعرض عليهم ، فكما وصلوا إلى الحرب الأهلية  بعد أحلام وردية في السبعينات بتغيير قادم ، صاروا بعد الحرب مع وقف الحرب بأي ثمن ،  وها هم وبسرعة قياسية صاروا بعد أحلام الثورة الضائعة ، مع حكومة بأي ثمن ، ودولة بأي ثمن ، والأخطر أن يمر ما يدبر لنا بفعل هذا الموت للسياسة ، وإعلان عجزها ، فيتسلل مموها ترسيم الحدود البحرية للنفط والغاز ، تحت شعار خط أممي أزرق بحرا يوازي الخط الأزرق برا ، ويتسلل مثله صندوق النقد الدولي ، ويصير وصفة أفضل الممكن ، ونتاج فلسفة "ببكي وبروح" .
  • موت الخيال هو موت الأحلام ، وموتهما موت للسياسة ، ولأن عنوان الأزمة في المال والإقتصاد ، فالمراقب يفتش عن قوة خيال وإبداع اي من المعنيين لإستيلاد فكرة جديدة ، فلا يجد ، وسقف المعروض هو بضاعة معروفة المصدر والأهداف ، والمرجع للبت بصحة وعدم صحة اي فكرة لا يزال بالعودة لرأي الذين أنتجوا السياسات المالية والإقتصادية الكارثية التي أوصلتنا إلى هنا ، والإقتصاد مثل السياسة ، فيكفي أن جيفري فيلتمان حذر من قيام الحكومة الجديدة بمكافحة خصومها بإسم مكافحة الفساد ، لنتوقع أن يصير المطلوب لعدم إغضاب الأميركي وقيامه بتجفيف مصادر المال ، هو التخلي عن فتح ملفات الفساد وإثبات الجدارة بحسن سلوك يصدره الأميركي ، الذي قال بلسانه ديفيد شنكر أنه سيراقب عمل الحكومة ، والكل يتحدث عن ثلاثة شهور ، سيجري خلالها فحص تصرفات الحكومة ، كي لا تقوم بشيئ جدي خلالها طلبا لحسن السلوك ، وهذا الوقت كاف لموتها ، هذا عدا عن خداع الصورة الاتي في تصويت في جلسة الثقة وحضور موارب مثل جلسة الموازنة لتأمين النصاب ، سيربك الحسابات وينشر شعارات وحسابات التحييد وعدم الإستعداء .
  • بث الأمل لدى اللبنانيين مستحيل بالأدوات الفكرية الراهنة ، التي يسيطر عليها العجز العقلي واللغوي وإشهار الإفلاس ، وإعلان الضعف ، كما بدا كل خطاب سمعناه أمس على ضفتي الصورة داخل المجلس وخارجه ، بث الأمل يحتاج حلما وخيالا ، أضاعتهما قيادة إنتفاضة 17 تشرين وجعلت المشهد كئيبا وهزيلا ومنفرا ، فهل تملك الحكومة القدرة على إنتاج حلم أو نصف حلم على الأقل ، لتمنح اللبنانيين بعضا من الأمل ، وهم لم يعودوا في زمن تلاحق الخيبات يطلبون الكثير ، وهل يتسع خيال الوزراء لإبداع فكرة واحدة تقدم كصناعة وطنية ، في مواجهة التحديات القائمة والقادمة ، فكرة تجذب الناس من حولها وتراها تستحق الصبر لتحمل الضيق ، لأن ثمة نور في نهاية النفق ؟
  • لولا وجود أنبل وأشرف ظاهرة معاصرة تمثلها المقاومة لكان كل المشهد قاتما .

2020-01-28 | عدد القراءات 17026