فتى آذار ...الثائر الأول نقاط على الحروف ناصر قنديل

  • ليس في تاريخ الأحزاب التي نعرفها عبر التاريخ ، مسيرة درامية مليئة بالأحداث الأسطورية ، سواء لجهة طابعها الملحمي ، أو لجهة تزاحم أحداثها الكبيرة ، ودرجة العبقرية التي تخفيها شخصية بطلها الأول ، ما يشبه ثنائية الزعيم أنطون سعادة والحزب السوري القومي الاجتماعي ، فالحزب الذي تأسس عام 1932 ولد مؤسسه وواضع عقيدته ومنشئ تشكيله النظامي الأول في أول آذار عام 1904 ، أي أن الزعيم الذي وضع العقيدة بما فيها من معالجات نظرية معقدة وتحليلات تتداخل مع شتى العلوم ، من الجغرافيا والتاريخ إلى النظريات السياسية الوضعية والعقائد المنتشرة ، والإقتصاد وعلم الاجتماع وعلوم السياسة والإستراتيجيات وفنون وأصول الإدارة ، كان في الثامنة والعشرين من العمر فقط ، وخلال السنوات التي تلت التأسيس قبل إستشهاد الزعيم ، والتي تشكل بمجموعها سبعة عشر سنة ، تحول الحزب وزعيمه إلى قضية أولى على جداول أعمال أنظمة المنطقة وفي طليعتها الكيان الغاصب لفلسطين والإستعمار الفرنسي والبريطاني ، بسبب التهديد الجدي الذي مثله إنتشار وتوسع وتجذر بناؤه التنظيمي وأداؤه النضالي ، حتى توافق الجميع على التخلص من سعادة وإعدامه الذي شكل بذاته ملحمة بطولة نادرة في حياة رجال الفكر والسياسة ، جعلت الكثيرين يقارنون بين إعتقال وإعدام سعادة الثائر ، وإعتقال وإعدام الثائر الأممي أرنستوتشي غيفارا ، وربما ترجح كفة سعادة لدى الكثيرين منهم .
  • خلال أكثر من ثمانية وثمانين عاما عاصرت عقيدة سعادة وحزبه عقائد وأحزاب كثيرة أخرى ، لكن الأحداث لم تمنح المصداقية لعقيدة بمثل ما منحتها لعقيدة سعادة ، سواء لجهة ما يجمع بين الكيانات السورية ، وحتمية فشل تقسيمات سايكس بيكو في إخفاء مصيرها الواحد ووحدة نسيجها الاجتماعي ، أو لجهة الخطر المحدق الذي يمثله كيان الاحتلال الصهيوني لفلسطين على سائر كيانات الأمة ، والحاجة لمواجهته بالسلاح المنظم والمقاومة الرادعة ، وإستحالة الرهان على التسويات السياسية لإستعادة أي من حقوق الشعب الفلسطيني ، فالصراع مع هذا الكيان هو صراع وجود لا صراع حدود ، أو لجهة فشل الأنظمة المؤسسة على الصيغ الطائفية وحيوية الحاجة لتأكيد وحدة النسيج الاجتماعي عبر دولة مدنية علمانية ، لا تتداخل فيها الهويات الاجتماعية المستحقة للإحترام على مستوى الإعتقاد الشخصي ، مع الهوية الجامعة على مستوى الوطن والأمة ، التي تبنى عليها الدولة .
  • فتى آذار لبناني المولد ، عالمي المكانة العلمية بين علماء السياسة والإجتماع ، نهضوي تغييري ، مقاوم وثائر من طراز خاص ، يمكن لكل لبناني مجرد عن عصبية أو حقد موروث أو تلاعب سياسي بالذاكرة ، أن يفتخر بأنه إبن بلد ، لكن على كل من يصف نفسه بالثائر اليوم من بين اللبنانيين ، أن يتذكر أن الثائر الأول الذي هز ركائز هذا النظام وإستحق شهادته بإمتياز ، هو أنطون سعادة ، الذي أخاف أركان النظام لأنه وضع يده على الجرح ، وضغط فيه فأوجع حماة الطائفية وزبائن الأجنبي ، ووكلاء منظومة النهب ، فجعلوه هدفا حتى أعدموه ، فهل يعني هذا ما يجب أن يعنيه حول من يتسبب بالوجع ويكون ثائرا بالمعنى العميق للكلمة ، وبين من يكون لاعبا على القشرة يستمتع ويترف بالتلاعب به أهل النظام وينجحون بإحتوائه وتقاسمه فيما بينهم ، كما بتقاسمون المال والنفوذ وأدوات السيطرة ، وهل يكون لذكرى سعادة فعلها في طرح الأسئلة الصحيحة لنيل الأجوبة الصحيحة ، حول أصل الداء في لبنان ، وفي ما حول لبنان ، وبالتالي حول خطة عمل جريئة وجدية بدونها يبقى كل جهد وتعب ووقت هباء ، لأنه يلاعب القشرة ولا يصل إلى عمق الوجع .
  • المهم وربما الأهم في عقيدة سعادة ، أنها أدركت جاذبية أفكارها الجريئة والجديدة والجامعة ، فخشيت عليها من التحول إلى ترف الصالونات ، فكان نصف العقيدة أو أكثر مركزا على مكانة النظام والإنتظام ، فالحزب هو الذي يمنح العقيدة بعدا إجتماعيا ، ومكانة فاعلة في حياة المجتمع ، ويشق لها الطريق كمنبع لحلول جدية لمشكلات تعانيها الأمة ويرزح تحت وطأتها الشعب ، وبدون الحزب والنضال والتضحيات لا يعترف سعادة بمريدين ومؤيدين لعقيدته ، فالقضية ليست قضية من يصفق ولا من يؤيد ولا من يعجب ، بل من يجد فيالعقيدة وصفة خلاص شخصي وجماعي ، ويتخذها نمط حياة وأسلوب عمل وإيمانا شخصيا يعيد تنظيم شخصيته وأولوياته ونمط حياته على أساسها ، والبداية بالإنتقال من الفرد كمحور للحياة ، إلى الأمة كهوية وقضية يعرف ذاته من خلالها ، ونواتها الحزب الذي يعيش شخصيتها ومبادئها وأخلاقياتها ، ويجعلها هدفا نضاليا يتحقق بالتضحيات .
  • في مسيرة مليئة بالتعرجات والإنجازات والخيبات ، نجح القوميون في صيانة شعلة العقيدة وإستمرار وملاءمة الحزب مع المتغيرات الكثيرة ، لكنها المتغيرات التي أكدت صواب العقيدة  وحاجة الحزب للإرتقاء بنضاله إلى ما تستحق ، ولم يغب الحزب عن إستحقاقات الأمة التي تشهد عليها دماء الشهداء من مقاومة الاحتلال إلى مواجهة خطر الإرهاب التكفيري والتفتيتي ، وإسقاط مشاريع التقسيم ، ويبقى الحزب السوري القومي الاجتماعي ، كلما نظرنا حولنا إلى الحاجة لحزب عابر للطوائف مترفع عن الطائفية بصدق ، وكلما نظرنا إلى ما حولنا من حاجة للتكامل بين كيانات لبنان وسورية والعراق والأردن وما حولها ، وكلما نظرنا إلى فلسطين ودرجة وضوح الصورة لجهة سقوط التسويات واوهامها وتظهير درجة العدوانية الدموية وآلامها ، الحزب الذي يمتلك الأجوبة الحاضرة على الأسئلة الملحة ، بسهولة ما كتبه سعادة قبل ثمانية وثمانين عاما وأكثر.

2020-03-02 | عدد القراءات 145293