الجغرافيا السياسية الجديدة : القاهرة وباريس بدلا من أنقرة والرياض نقاط على الحروف ناصر قنديل
ناصر قنديل
خلال عشر سنوات عرفت المنطقة التي يسميها الأميركيون بالشرق الأوسط الكبير تحولات كبرى ، كانت الحروب هي العنصر الفاصل فيها ، وشكلت الحرب على سورية والحرب على اليمن الإختبارات الأهم لموازين القوى ، حيث المشروع الأميركي الهادف لفرض الهيمنة على المنطقة ، عبر إضعاف وترويض محور المقاومة وقاعدته إيران ، وإبعاد روسيا والصين عن مياه البحر الأبيض المتوسط ، يضع في حسابه بعد حربي أفغانستان والعراق الفاشلتين ، وحروب إسرائيل الفاشلة على لبنان وغزة ، أن حروب الوكالة التي سيتولاها حلفاؤه ، هي التي ستصنع منهم شركاء في النظام الإقليمي الجديد ، وكان واضحا خلال السنوات التي مضت أن تركيا والسعودية قد شكلتا ميمنة الأميركي وميسرته ، سواء بالتعاون أو بالتناوب أو بالتنافس ، لكن كان واضحا أيضا ان البحر المتوسط مهمة تركية ، والخليج والبحر الأحمر مهمة سعودية إماراتية ، وهذا يعني خوض حرب سورية بقيادة تركية ، وحرب اليمن بقيادة سعودية ، فيما يولصل الأميركي والإسرائيلي التدخل والمناورة العسكرية والسياسية حسب الحاجة ، لكن دون التورط فيمواجهات مفتوحة .
شهدت الشهور الأولى من هذا العام 2020 جملة من التطورات ، بدأت بإغتيال الأميركيين للقائدين في محور المقاومة قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس ، وتلاها الإعلان عن صفقة القرن ، وتلاهما فتح ملفات حكومية معلقة في لبنان والعراق ، والتفاهم الأميركي مع حركة طالبان وما تضمنه من إلتزام أميركي بالإنسحاب ، وجاءت المعارك المفصلية في سورية واليمن ، لتقول جميعها أن هذا العام هو عام الحصاد ، وعام حسم الإتجاهات ، وبلورة الخيارات ، وهو ما يمكن إستنتاجه من الربط بين ما فعلته واشنطن بأيديها وليس بواسطة الوكلاء ، أي إغتيال القادة وصفقة القرن والإنسحاب من أفغانستان ، ليصير بائنا أن هدف الإغتيال وصفقة القرن التمهيد للإنسحاب ، عبر فك الإرتباط بين البقاء في المنطقة ومقتضيات امن إسرائيل ، وتأمين هذه المقتضيات عبر الإغتيال وتشريع عمليات ضم الأراضي الفلسطينية وعمليات التهويد والإستيطان ، وضمان تدفق المال والسلاح من واشنطن إلى تل أبيب ، دون قيود كانت تترتب على هذه العمليات قبل صفقة القرن ، بحيث بات شرعيا بعدها ما كان غير قانوني قبلها ، وصارت الجغرافيا الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 67 أداة الأمن الإسرائيلي ، بعدما كانت مقايضتها بالسلام هي الطريق للأمن .
إذا كان المحور الإستراتيجي للحركة الأميركية هو الإتجاهللإنسحاب ، كما تقول الخطوات الأميركية المترابطة ، تصير حروب إثبات الأهلية على نيل الوكالة ، من سورية إلى اليمن ، إمتحانات العبور الضروروية لكل من تركيا والسعودية ، وهذا ما يمنح المعارك التي خاضتها تركيا في سورية والسعودية في اليمن هذا العام ، مضمونا مختلفا عن معارك الأعوام السابقة ، وما يمنح إنتصارات سورية وقوى المقاومة وعلى رأسها حزب الله من جهة وأنصار الله والجيش اليمني من جهة مقابلة ، معان مختلفة عن الإنتصارات السابقة ، وهذا ما يفرض القراءة لجغرافيا المعارك بعيون مختلفة ، فقد نجح اليمنيون بالسيطرة على محافظة الجوف الإستراتيجية بالنسبة للأمن السعودي ، بمثل ما نجح السوريون وقوى المقاومة بكسر الجيش التركي في سراقب عقدة الأمن الإستراتيجي لسورية وتركيا معا ، بحيث باتت التسويات المقبلة مشاريع حفظ ماء الوجه لكل من السعودي والتركي ، لكن على قاعدة الفشل الإقليمي .
في معسكر التحالف مع واشنطن ، يتقدم عند الهزيمة موقع الذين كانوا خارج الحرب ، وهذا هو حال كل من مصر وفرنسا ، فمصر التي تراعي الحسابات السعودية كثيرا ، لم ترتضي المشاركة في حرب اليمن وحافظت على علاقاتها مع سورية بعناية خصوصا في مواجهة الخطر التركي والأخواني، وفرنسا التي تعمل تحت سقف السياسات الأميركية عموما أظهرت مقاربة مختلفة تجاه إيران وحزب الله في الملفين الرئيسيين ، الملف النووي والتعامل مع الحكومة اللبنانية ، وفي زمن التمهيد للإنسحاب الأميركي تزداد حاجة واشنطن لمن يمكنهم التحدث مع الخصوم ، ويصعد دور الذين يملكون قدرة بناء الجسور لا الجدران ، وهذا ما يمنح لمصر وفرنسا أدوارا مختلفة ومتقدمة في المرحلة القادمة ، خصوصا أن "إسرائيل" في غرفة العناية الفائقة ، فهي تعيش مرحلة إرتباك إستراتيجي يتخطى العجز عن خوض الحروب ، إلى حد العجز عن تسيير الالة السياسية للكيان الذي يقوم بإعادة إنتخاباته لمرة ثالثة ولا يزال عاجزا عن تشكيل حكومة ، وإن فعل فلن يستطيع الإنتقال إلى المبادرة بسبب هشاشة وضعه السياسي والعسكري .