ناصر قنديل
- أشياء كثيرة يكتشفها الناس على مساحة العالم مع هذا الزلزال الذي أصاب البشرية مع تفشي فيروس كورونا ، الذي لم يعد أحد بمنأى عنه ، ويتساوى بالضعف أمامه الكبير والصغير ، القوي والضعيف ، الحاكم والمحكوم ، الغني والفقير ، ويجتاح الدول المقتدرة والضعيفة ، ولا تسري عليه معادلات التمييز العرقي والطبقي ، بين الدول وداخلها ، وأبرز فرص الإكتشاف هي حالة التأمل التي تفرضها الأوقات الطويلة التي ينتجها الحجز المنزلي الإلزامي الذي دخله الملايين من الناس ، والأسئلة الوجودية الكبرى المنسية التي أعادت التجربة طرحها ، وستكون للأجوبة التي راكمها الناس من عزلتهم ، بصماتها على الفلسفة والفكر الإنساني بكل تأكيد ، بعد الخروج من المحنة ، وصولا للفن والثقافة والرواية والسياسة والإقتصاد ، ويكفي تأمل السكينة التي دخلتها الأرض ككوكب منهك بالتدخلات البشرية العنفية ، ومن خلالها تراجع مستويات التلوث في ظل الأزمة ، وتدني حرارة الكوكب مجددا لإلتقاط الأنفاس بعد حروب إستنزاف لا ترحم فرضها الشره والطمع وعادات الإستهلاك القاتلة ، على الثروات البيئية والطبيعة والمياه والتربة والخضرة والثروات الحيوانية ، ولن يكون سهلا التغاضي عن رؤية نتائج هذه الهدنة الإلزامية التي فرضها كورونا لصالح الطبيعة ، وتفادي مقارناتها العلمية بما قبلها ، قبل أن تستأنف البشرية دورة حياتها بعد الزلزال .
- من الأشياء التي تغيرت وستتغير حكما ، هي القراءات لمعادلة القوة والضعف في معايير الدول وتقييمها ، حيث أظهر تفشي الفيروس تفلت المجتمعات الغربية من كل قيم مشتركة للتضامن وتحمل المسؤولية وفساد النموذج الغربي الثقافي ، كما أظهر معه تخلف الإنفاق على هياكل الصحة والوقاية ، وإستسهال الإستثمار على المظاهر الفارغة للحياة على حساب الإهتمام بصحة البشر ، التي تشكل القضية الأولى للعلم واالرعاية الحكومية ، وحيث البحث العلمي بدا متخلفا هو الآخر منصرفا لإبداع عادات إستهلاكية جديدة وسلع جديدة أكثر منه إستثمارا على القضايا الجدية للعلم وفي طليعتها الطب والدواء ، بعيدا عن المتاجرة والطمع والجشع ، بينما ظهر نموذج دولة مصنفة في العالم الثاني كالصين مبهرا في كل شيئ ، من التنظيم والثقافة والإدارة والقدرات العلمية ، رغم أن الصين تنوء تحت عبء عدد سكانها الهائل ، و رغم هول المفاجأة الكارثة التي وقعت علي الصين ومنحت إنذارا لسائر دول العالم ، وها هي اليوم تسجل عدد فعلي للمصابين يعادل ربع العدد الفعلي للمصابين في إيطاليا ويعادل عدد المصابين في كل من ألمانيا وأميركا ، ونصف عدد المصابين في اسبانيا وفرنسا ، دون أن يكون هناك تفسير سوى في نموذج الدولة والثقافة .
- ظهر الإقتصاد العالمي الذي يفترض أنه بلغة الأرقام الدفترية ، عملاق ضخم المقدرات ، أشد هشاشة من الجسم البشري في مواجهة الأزمات ، فخلال أيام من الأزمة فقدت السلع الأساسية من الأسواق ، وإنهارت أسعار البورصات وضاعات مئات مليارات الدولارات من الثروات المستثمرة في سوق الأسهم ، وتسهل المقارنة بين حال الإقتصاد الذي واجه المجاعة في الحرب العالمية الأولى ، وحال اليوم ، لرؤية تفوق نظام المونة التقليدي ، والزراعة البيتية ، والصناعات العائلية الصغيرة ، وإعتماد العملة الذهبية للتداول بالسلع ، على نظام الإقتصاد الإفتراضي الذي لا يشبهه شيئ إلا الورق الذي يرمز إليه ، والتطبيقات الإلكترونية التي تحمله ، ليصير السؤال ببساطة مع اول أزمة ، هل يمكن ان نأكل ورقا أو تطبيقا إلكترونيا ، ويطرح على نطاق واسع النقاش حول ماهية النظام الإقتصادي الجديد الذي سيولد من رحم هذه الأزمة ، وما يصعد إلى السطح مباشرة هو نقاش الدور التخريبي لوحش المصارف في إقتصادات العالم ، بعدما تحولت من مصدر تمويل للتنمية ، إلى عنوان للمضاربات الريعية التضخمية على الورق كبالون يكفي دبوس أو فيروس لتفجيره كفقاعة لا يبقى منها شيئ ، يضيع معها كل تعب العمر وشقاء السنين .
- بين الفلسفة والدين أيضا كثير من التداخل في النقاش ، حيث سقط نموذج الفكر الديني الكلي الغيبية ، القائم على الإتكالية بدلا من التوكل ، وبالمقابل وقف عاجزا نموذج الإنكار للأبعاد الروحية والدينية فيما يواجه الإنسان خطر الموت بفيروس مجهول سريع التسلل والفتك لم يستطع العلم فك شيفراته ورموزه ، ويشعر الناس بدنو لحظة الفراق ببساطة وبسهولة ، ليتقدم نموذج الدعوة للجمع بين العلم والدين بإعتباره العلم الحقيقي والدين الحقيقي ، بما يعنيه ذلك من دعوة لتحمل المسؤولية عن الصحة الفردية بالعناية والإنتباه والوقاية ، وعن صحة الغير بإعتبارهما مسؤولية إنسانية وأخلاقية ودينية ، وربط التوكل بالعمل ، وفقا لمعادلة إعقلها وتوكل .
2020-03-19 | عدد القراءات 1455186