شركات تدقيق الحسابات ومستشار الباذنجان نقاط على الحروف ناصر قنديل
ناصر قنديل
في كل مرة يرد الحديث عن مخالفات مالية وإرتكابات بحق المال العام ترد الدعوات لطلب إعتماد شركات تدقيق محاسبية عالمية حسما للأمر ، وآخر الكلام يرد عن تكليف الحكومة لوزارة المال بإعتماد واحدة من هذه الشركات لتدقيق حسابات مصرف لبنان .
لهذه الشركات حكاية عالمية وحكايات لبنانية ، والمقصود كبريات الشركات الذائعة الصيت عالميا والتي أغلبها مسجل في الولايات المتحدة الأميركية ، وهي شركات في غالبها لها فروع تهتم أيضا في منح التصنيفات الإئتمانية للدولوالمصارف والشركات ، وببساطة شديدية يمكن أن نجد توقيع الشركة وخاتمها على تصديق حساب مصرف يستثمر كل ودائعه في سندات دين دولة ، ونجد تصنيفا إئتمانيا لهذه الدولة عند ذات الشركة في أسوأ المراتب ، ودون إستغراب يجب أن نتقبل أن هذا ما جرى عندنا في لبنان.
في أزمة 2008 التي أصابت الاقتصاد الأميركي ولاحقا الاقتصاد العالمي ورافقتها إفلاسات ملايين الشركات وعشرات المصارف طرح القضاة الذين نظروا بقضايا الإفلاس مسؤولية شركات تدقيق الحسابات التي كانت تمنح خاتمها وتواقيع مدقيقها على صحة حسابات الشركات والمصارف المفلسة ، وفوجئوا بالجواب السخيف الذي أجمعت عليه شركات المحاماة التي تولت الدفاع عن شركات التدقيق ، وكان تقريبا يدرو حول نقطة واحدة ، وهي أننا ندقق في مراعاة عملية تنظيم الحسابات لمعايير حسابية تقنية ، ولسنا من يضع الحسابات ، فإن كان فيها كذب فليست مهمتنا التحقيق فيه ، وإن كان ينطوي على مخاطرة ، فليست وظيفتنا أن نبحث عنه ، فتلك مهمة لا تدخل في عقودنا ، ولذلك تضمنت الأحكام الخاصة بالإفلاس فقرات تنفي عن تقارير شركات التدقيق صفة القدرة على منح الثقة بالحسابات .
الجواب الذي صدر عن الشركات يشبه حكاية قديمة ذائعة الصيت عن إستعانة أحد الملوك بمستشاره لتحديد وجبة طعامه ، فقال له يا مستشار ما رأيك أن نتناول الباذنجان على الغذاء ، فقال المستشار وحسن الإختيار يا مولاي ، فالباذنجان متعدد المواهب ، لا تغشنك قشرته السوداء فلبه شديد البياض ، ولا تظنه وجبة واحدة فهو يأكل مشويا ومقليا ومطبوخا بالرب ، أومحشيا باللحم ، وفي اليوم التالي نادى الملك على مستشاره قائلا يا مستشار نصحتنا بالباذنجان فتناولناه ، وها قد اصابتنا بسببه المتاعب ، فقال المستشار ، سامحك الله يا مولاي ، الباذنجان غشاش مخادع ، فبياضه سرعان ما يتحول سوادا إن تركته في الضوء ، وشحمه يخفي بذارا كحبات السمسم ، وإن أكلته مقليا شرب الزيوت وإن طبخته مشويا أثقلته الطحينة ، وإن حشوته باللحم لا يطيب إلا بالسمن ، وكلها أسباب للأذى ، فتعجب الملك وقال بالأمس سألنك فمدحته واليوم شكوناه فهجوته ، فقال يا مولاي أنا مستشارك أنت فأنت ولي نعمتي ، ولست مستشار الباذنجان ، أحببته بالأمس فمدحناه ، وتأذيت منه اليوم فهجوناه .
في لبنان تعتمد المصارف كبريات الشركات نفسها ، وتلك التي ستعتمد لتدقيق حسابات مصرف لبنان واحدة منها ، وخلال سنوات مضت قبل الوقوع في الإنهيار كانت حسابات المصارف تحظى بالتصديق من هذه الشركات ، وعند المساءلة سنمسع ذات الحجة ، التي قالتها الشركات نفسها امام القضاء الأميركي ، والتي قالها مستشار الملك عن الباذنجان ، ويعرف الخبراء أن ما تهتم به شركات التدقيق وتلفت النظر إليه هو فقط مطابقة مجموع المطلوبات بالمسحوبات ، ومطابقة تقييم الموجودات الوارد على ذمة الجهة المعنية مضافا إليها الديون وفقا لتصنيف الجهة المعنية لصدقية تحصيلها مع إجمالي الودائع بالمقابل ، وتقبض نصيبها المستحق على منح خاتمها عبر التصديق الذي ينوب عنها بمنحه غالبا وكلاء لا يجهدون أنفسهم بالعمل .
شركات التدقيق المالية ، شريك الفساد والتزوير في الحسابات المصرفية ، وشريك المسؤولية في ضياع الودائع ، فأمام أعين مدقيقها صنفت ديون ميؤوس من تحصيلها كديون موثوقة ، والقصد سندات الخزينة بينما كانت الخزينة خاوية ، وتمت مواصلة عملية التراكم في الدين سنة بسنة تحت أعين المدققين وبخاتم الشركات الكبرى "ذات المصداقية العالية " .
تدقيق حسابات مصرف لبنان لن يأتي بنتيجة أفضل ، بينما لدينا ديوان المحاسبة وحده الذي يمثل عقل الدولة المالي الرقابي والذي يجب أن تحال إليه من الحكومة أي حسابات تستدعي التدقيق سواء خصت الوزارات أو المصارف أو مصرف لبنان ، طالما الهدف هو أن تعرف الدولة الحقيقة المالية ، ولا علاقة لذلك بإخضاع هذه المؤسسات التي تحال حساباتها للتدقيق لدى الديوان لسلطته ، بل قيام الدولة بتدقيق حساباتها ، والدولة تقرر لمن توكل إخضاع حساباتها للتدقيق لدى جهة تثق بها لتبني قراراتها على حقائق .