واشنطن تخسر آخر رهاناتها الإستراتيجية نقاط على الحروف ناصر قنديل

ناصر قنديل

  • ربما يكون الكثيرون على إعتقاد بأن الإحتباس الذي شهده سوق النفط الآجل في أميركا حالة عابرة ، وربما بنى عليه الكثيرون بالمقابل آمالا بإنهيار إقتصادي شامل في أميركا ، وكل من الإستنتاجين على قدر عال من التسرع ، وبعيد عن فهم حقيقة ما جرى وأبعاده وخلفياته ، فالمتفق عليه هو أن الإحتباس في السوق ناجم عن بلوغ موعد البيع الآجل لشهر أيار موعد نهاية عمليات البيع في 20 نيسان ، بينما لا تزال كميات ضخمة منه غير مباعة ، بحساب طاقة الإنتاج ، والسبب عدم وجود دورة إقتصادية قادرة على الإستيعاب ، وإشباع مراكز التخزين بفعل الإنخفاض المتواصل منذ شهرين في سوق النفط وبلوغ الأسعار أرقاما قياسية متدنية ، ما حمل بعض حاملي قسائم الشراء يضاربون على المنتجين في التخلي عن قسائمهم لمن يشتريها بسعر منخفض تفاديا لحلول موعد التسليم وهم عاجزين عن تسلم مستحقاتهم ، حيث لا سوق تستهلك ولا مخازن تستوعب ، وتخطي الأزمة تم بشراء الدولة ل75 مليون برميل ضمتها إلى مخزوناتها ، وتدوير ما تبقى من عرض في السوق لمنتجات أيار إلى معروضات حزيران ، التي تنتهي مهل بيعها في 20 أيار .
  • عند حدود هذا "المتفق عليه" ترد الوقائع التي لم يأخذها المتفائلون بقدرة الاقتصاد الأميركي على تخطيها في حسابهم ، والتي بالغ الذين يتوقعون إنهيارا إقتصاديا شاملا بفعلها في إعتبارها مجرد مؤشرات على بلوغ الاقتصاد الأميركي الركود الشامل ، الذي قد يأتي لاحقا بفعل إستمرار الإغلاق الناتج عن كورونا ، لكن ليس بفعل تداعيات ما يجري في السوق النفطية وحدها ، وقد سرعت أزمة كورونا تفاعلاتها من ضمن هذا الركود الذي جلبته ، وأبرز هذه الوقائع يتصل بكون السوق التي يجري الحديث عنها وتدور الأزمة النفطية حولها ، هي سوق النفط الصخري الذي يتركز في غرب تكساس ، وهذه السوق ليست عادية لا إستراتيجيا ولا إقتصاديا ، فالتطلع الأميركي لزعامة العالم جرى ربطه منذ سقوط الإتحاد السوفياتي بالسيطرة الأميركية على سوق الطاقة ، بحسابات تشبه رهان الثمانينات على سباق التسلح وحرب النجوم ، الذي إنتهى بإنهيار الإتحاد السوفياتي .
  • راهن الأميركيون في العشرة الأولى من القرن الواحد والعشرين على حربي العراق وأفغانستان لتحقيق هدف السيطرة على ما أسموه بحوض قزوين ، وإمداد أوروبا من خط نبوكو الآتي من كازخستان إلى تركيا لحساب السوق الأوروبية ، بعد تطويع إيران وشطب موقع العراق ، وإحتواء سورية ، وقد باء هذا الرهان بالفشل وسقط عند تعاظم حضور إيران وإمساكها بمضيق هرمز عنق التجارة النفطية في العالم ، وإنتقلت المواجهة في العشرة الثانية من القرن على رهان جديد هو السيطرة على سورية ، والنجاح بتحقيق فرصة التخلص من مخاطر إغلاق مضيق هرمز ، وتوفير إمداد أوروبا بالنفط والغاز عبر الخليج بأنابيب تخترق سورية ، وسقط الرهان بثبات وصمود سورية ، وتموضع روسيا فيها وإستبسال إيران وقوى المقاومة بالدفاع عنها ، فبدأ الإستعداد منذ 2017 لإطلاق حصان رهان جديد يفترض أن يبدأ بفرض حضوره في العشرة الثالثة من القرن ، والحصان هو النفط والغاز الصخريين ، والساحة هي غرب تكساس ، حيث نهضت خلال ثلاثة أعوام عشرات آلاف الشركات العاملة في القطاع ، وإستثمرت الدولة الأميركية وشركات النفط وكبار المستثمرين تريليونات الدولارات في هذا القطاع ، والهدف إنتاج كمية عشرة ملايين برميل يوميا ، تضخ إلى أوروبا بديلا من نفط وغاز كل من الخليج وروسيا ، بصورة تكون آمنة من مخاطر إغلاق هرمز ، وتحكم الطوق على الحضور الروسي ، بعدما فشل خط نبوكو ، وخط سورية الإفتراضي .
  • الوقائع والأرقام تقول أن الإنتاج بلغ في كانون الثاني من هذا العام رقم 8،7 مليون برميل يوميا من النفط عبر الصخور البركانية ، وأن كلفة إنتاج البرميل هي 47 دولار ، وأن السعر التجاري المناسب لتطور هذا السوق هو 65 دولار للبرميل ، وأن المخازن الأميركية تتسع ل580 مليون برميل للنفط الخام ، ومثلها للمشتقات النفطية ، وأن هذه المخازن العائدة للدولة والقطاع الخاص قد إمتلأت ، بعدما ضخت إليها الدولة آخر 75 مليون برميل قبل أيام ، وبالتالي فإن مواصلة حال الركود ومعها الإنخفاض في أسعار النفط إلى دون الثلاثين دولار ، ستعني فقط مواصلة ما بدأ من شهر ويستمر ، وهو إفلاس آلاف الشركات وضياع مليارات الدولارات المستثمرة في هذا القطاع ، وقد أفلست حتى الآن أحد عشر ألف شركة والحبل على الجرار ، والقدرة على إنعاش القطاع في ظل أضرار روسية سعودية مشتركة من تضخمه تبدو مستحيلة ، وسعر البرميل لن يعود إلى الستين دولارا قبل سنتين حسب التقديرات المتفائلة لصندوق النقد الدولي ، إذا تعاونت روسيا والسعودية في تجفيف العرض الزائد من السوق ، وما جرى مع تسليم إستحقاقات أيار سيتكرر مع حزيران وغير حزيران ، حتى يجف سوق النفط الصخري ويهوي ، ويسقط معه آخر رهانات الإستراتيجية الأميركية للسيطرة على سوق الطاقة ، في ظل عروض صينية لعقود طويلة الأجل مع المنتجين الخليجيين على أسعار متوسطة لا تتعدى الأربعين دولار لسنوات مقبلة ، فيما تعرض روسيا مبيعاتها الطويلة الأجل في السوق الأوروبية بأسعار موازية .
  • ما جرى وما سيجري في غرب تكساس ، أكبر من مسألة نفطية ، وأكبر من مسألة إقتصادية ، فهو خسارة حصان رهان إستراتيجي ، يمكن له إذا تلاقى مع نتائج تفاقم الركود في زمن كورونا ، وما يترتب من حال بطالة لأكثر من ثلاثين مليون أميركي ، وتراجع للنشاط الاقتصادي لخمسة عشر مليون شركة أميركية مهددة بالإفلاس ، أن يتحول إلى أزمة بنيوية ، تفتح الطريق لتوقعات دراماتيكية إقتصادية وسياسية وإجتماعية ، ربما تكون وحدة أميركا على محك التجربة فيها ، وربما يكون سباق النفط عكس سباق التسلح الذي إنتهى بتفكك الإتحاد السوفياتي ،  مرشح لأن ينتهي بتفكك الولايات المتحدة الأميركية  .

2020-04-24 | عدد القراءات 15616