سعر الصرف والأحجية المعقدة إلى أين ؟ نقاط على الحروف ناصر قنديل
ناصر قنديل
تجري المناقشة اللبنانية الداخلية ومعها النقاش الخارجي لواحدة من ركائز أي بحث إقتصادي ومالي للوضع اللبناني ، يمثلها التعامل مع سعر صرف الدولا بتسويق مسلمة تتحول إلى بديهية ، وهي أن تثبيت السعر المنخفض عافية ، وأن سعر الصرف الموحد هدف ، وأن تحرير سوق الصرف مبدأ لا حياد عنه ولو أدى لسعر مرتفع وتضخم وإنهيار القدرة الشرائية في سوق مدولرة ، والسير من هذه المنطلقات سيوصلنا إلى نتيجة واحدة ، وهي أن لبنان كي ينجح بتحرير كامل لسوق الصرف فعليه أن يتقبل إرتفاعا مرعبا في سعر الدولار ، يترتب عليه ارتفاع جنوني في الأسعار الإستهلاكية وتضاؤل كارثي في القدرة الشرائية وصولا لحد المجاعة ، إذ أن المبلغ المطلوب لسد الفجوة التقليدية بين مطلوبات وواردات الميزان التجاري تفوق ال17 مليار دولار سنويا ، ومترتباتها على سوق العرض والطلب في سوق الصرف ، بسبب تراجع عائدات التحويلات المختلفة من غير التصدير ، لا تقل عن عشرة مليارات دولار سنويا ، وهذا كان مصدر سعي مصرف لبنان منذ 2010 عندما بدأ عهد التحويلات يأفل مع تقدم زمن العقوبات من جهة ، وتراجع الإقتصادات العالمية والخليجية يفرض إيقاعه من جهة أخرى ، فتراجعت عائدات السياحة والتحويلات من الخارج ، وإعتمد المصرف المركزي لجلب هذه الدولارات ، على تشجيع الدولة على المزيد من الإستدانة بالعملات الصعبة ، حتى صار المزيد من الدين مستحيلا ، بفعل تضخم كتلة الدين وحجم الفوائد ، فصار البديل باللجوء إلى ما أسماه بالهندسات المالية لوضع اليد على دولارات القطاع المصرفي بإغراء شرائها بفائدة بلغت 100% بالليرة اللبنانية ، وهي في النهاية ودائع المودعين ، وقد "نجح" بتجفيفها .
الذي يجب أن يدركه اللبنانيون ، والمسؤولون قبل المواطنين ، هو أن الجمع بين تحرير سعر الصرف ، ومعالجة الأزمات المالية والإقتصادية والمصرفية مستحيل ، والإنطلاق من فرضية البحث عن وصفة سحرية لتحرير السعر ، والحفاظ على القدرة الشرائية وضبط الأسعار الإستهلاكية ، هو جهد ووقت ضائعين ، وحتى يستطيع لبنان فعل ذلك ، يجب أن يضمن عودة تدفقات بقيمة 10 مليار دولار سنويا على الأقل ، عن غير طريق الإستدانة ، أي من عائدات التصدير والسياحة وتحويلات الإغتراب ، وهذا يعني أن الشرطين الواجبين لتوفير ظروف مناسبة لهذه العودة ، هما نهاية زمن العقوبات ، وعودة الإنتعاش للإقتصادات العالمية والخليجية ، وبإنتظار ذلك على لبنان إذا أراد شعبه والمسؤولون فيه ، منع التأثيرات المدمرة لسعر الصرف على الإستهلاك والقدرة الشرائية تقبل فكرة التعايش المؤقت ، لسنوات ، مع أكثر من سعر في سوق الصرف ، وعدم إعتبار ذلك نقيصة ، والإستعداد لتفاوض شرس مع صندوق النقد الدولي تحت هذا العنوان .
الأهم هو رسم معالم المرحلة الإنتقالية ، أي السنوات الخمس التي حددتها الحكومة كمدة معقولة لخطة النهوض ، بحيث تغطي الموارد المتاحة والمتوفرة من العملات الصعبة حاجات الإستهلاك الرئيسية ، بأسعار صرف لا تتيح إضطرابا في أسواق الإستهلاك وتآكلا في القدرة الشرائية ، وهذا يستدعي تقييد حكمي لشروط الحصول على الدولار اللازم لأعمال الإستيراد الخاصة بالسلع الضرورية والإستهلاكية ، مقابل سوق حرة للصرف بسعر مختلف حكما ، وأعلى حكما ، تغطى منها حاجات إستهلاكية كمالية ، وهنا يجب أن تنفتح عقولنا على حقيقة أن السعر المرتفع في سوق الصرف الموازية أو الحرة ، سيكون فرصة للإقتصاد ، فهو حافز للتصدير وعنصر تراجع في الإستيراد بسبب ارتفاع هائل لأسعار السلع المستوردة بسعر صرف مرتفع ، مقارنة بالقدرة الشرائية للبنانيين ، وهذا سيتيح خلال سنوات إنتظار نهاية زمن العقوبات وإنتعاش الاقتصاد العالمي والخليجي ، نهضة صناعية وزراعية تغطيان الجزء الأساسي من حاجات السوق المحلية ، وتزيدان الدخل بالعملات الصعبة من عائدات التصدير المتزايد ، وهذه النتيجة المتوخاة مشروطة بأمرين ، الأول إعتبار العملات الصعبة العائدة من التصدير محررة بنسبة 75% سلفا لصالح المصدرين لإعادة الترسمل بالمواد الأولية وتطوير مواردهم لمزيد من التصدير ، بإعتبار ال25% الباقية مخصصة لتأمين إستيراد المشتقات النفطية كأساس لتأمين الطاقة للصناعة شرط شراء دولارها بسعر سوق التحويلات من المصدرين أي 3000 ليرة مقابل 1500 لتسعير المشتقات النفطية والكهرباء يحصلون عليه ، والثاني تحرك حكومي عاجل لتحديد السلع التي ينتجها أو كان ينتجها ويمكن أن يعود لإنتاجها ، لبنانيون ، لتوفير الحماية الفورية لها من منافسة المستوردات ، وفي المقدمة تقف صناعة الألبان والأجبان والعصائر والمياه المعبأة ومواد وأوراق النظافة ، والأحذية والألبسة ، ولائحة طويلة تخفف فورا ملياري دولار من فاتورة الإستيراد .
لدى تشريح فاتورة الإستيراد التي تشكل مصدر الطلب على الدولار ، سنجد توزيعا مذهلا يكشف الكثير من الحقائق ، حيث الفاتورة النفطية في المقدمة ، وفقا لسعر النفط تتحرك بين 3و6 مليارات دولار ، وفاتورة المواد المتصلة بالصناعة قرابة ملياري دولار بين مواد أولية ومستوردات ميكانيكية ، والمستوردات الغذائية قرابة 3 مليارات دولار أغلبها قابل للإستبدال محليا ، والمستوردات الطبية بمليار ونصفمليار دولار تقريبا قابلة للتخفيض إلى النصف ، والمواد الإستهلاكية الممكن تصنيفها كمالية من ألبسة وعطور ومجوهرات ومشروبات وسيارات بحدود خمسة مليارات دولار سنويا ، بالقياس لفترة 2004-2010 ، وحيث كان العجز في الميزان التجاري يدور حول رقم 7 مليارات دولار فقط ، قفز إلى 17 مليار خلال عشر سنوات بصورة يفسر بعضها دخول النزوح السوري كعامل جديد على الإستهلاك وتراجع التصدير إلى سورية والعراق ، من جهة أخرى ، بنسبة ملياري دولار إستهلاك إضافي وتراجع مليار دولار تصدير ، وزيادة القدرة الإستهلاكية الداخلية الناجمة عن سلسلة الرتب والرواتب ، بما يعادل 3-4 مليارات دولار مقابلة ، ويكفي العمل للعودة إلى حالتنا عام 2010 ، ليعود العجز التجاري إلى 7 مليارات ، وهذا يتصل بسعر النفط ، وهو الآن أقل من عام 2010 ، وعودة النازحين السوريين ، وفتح السوقين العراقي والسوري ، ومع تراجع القدرة الشرائية بفعل تراجع كبير في سعر الصرف ، يمكن توقع هبوط العجز في الميزان التجاري إلى أقل من 5 مليارات دولار بالتأكيد .
كان لبنان يعوض عجز الميزان التجاري حتى عام 2010 ، ويحقق فائضا ، بالإستناد إلى دخل يعادل 10 -12 مليار دولار يأتي مناصفة من السياحة وتحويلات اللبنانيين ، وبقي منه فقط قرابة مليار دولار من التحويلات العائدة للبنانيين في الخارج وتراجع السياحة حتى الصفر تقريبا ، و بإنتظار تعافي المصدرين يبقى فارق الأربعة مليارات الباقي كضغط على ميزان المفدوعات ، لتغطية مليار دولار ستبقى لإستيراد غير الأساسيات وتراجع نوعي في تحويلات العاملات المنزليات الأجنبيات حتى الإضمحلال ، وملياري دولار للمشتقات النفطية ، ومليار دولار للقطاع الدوائي ، ومثلها بضع مئات ملايين الدولارات لتحويلات للطلاب اللبنانيين في الخارج هي مصادر قابلة للمعالجة ، عبر تفاهم نفطي مع العراق يقوم على تشغيل خط كركوك البصرة النفطي ، وإخضاع إستيراد الأدوية والمواد الإستهلاكية لمعادلة تتيح الإفادة من دولار منخفض ، بحيث يكون بصورة تختلف عما هو قائم اليوم بتمويل مصرف لبنان لإستيراد المشتقات النفطية والأدوية والقمح ، معادلة جديدة إقتصاديا تجيب ضمنا على كيفية تخفيض الفاتورة من جهة ومنع ارتفاع الأسعار من جهة موازية .
الصيغة المطلوبة هي إعتماد سعر منخفض جدا لسعر الدولار ب1500 ليرة لإستيراد القمح والمشتقات النفطية أو النفط ، والدواء ، شرط حصر أغلبها بتفاهمات دولة لدولة ، وإعتماد إجازة إستيراد مسبقة من الوزارة المختصة للتجار تحدد الكمية والقيمة لبيعهم الدولارات اللازمة من الصرافين ، مقابل تأمينها من مصرف لبنان بسعر معادل (3000 ليرة ) ، من ضمن تحويلات اللبنانيين وربع عائدات التصدير ، أي ما يعادل ملياري دولار سنويا ، فيما سيصحح الاقتصاد الكثير من نقاط الضعف بربط إستيراد المواد الباقية بسعر دولار مرتفع (5000 ليرة ) وعجز اللبنانيين من تحقيق الطلب عليها وعجز الكثير منها عن منافسة الإنتاج المحلي الذي سينمو خصوصا في القطاعات الغذائية وقطاع الأبسة والأحذية ، بدليل ما كان عليه في سنوات سعر دولار مرتفع في أواخر الثمانينات من القرن الماضي .
تحسين التبادل التجاري مع سورية والعراق يحتاج إلى إستبدال العبقرية اللبنانية بالعودة للعبقرية الفرنسية التي أدركت مع عهد الإنتداب الحاجة لتبادل تجاري بالليرة المحلية ، فجعلتها واحدة ، رغم إقامة دولتين ودستورين وحكومتين وجيشين ورئيسين ، لكن مع إنشاء مصرف مركزي واحد وليرة واحدة ، وهو ما يمكن إستبداله اليوم بتعاون حاكميات المصارف المركزية في لبنان وسورية والعراق لإصدار تسعير يومي تبادلي للعملات الوطنية دون المرور بالعملات الأجنبية والسماح بالتداول بالعملات الوطنية في أسواق البلدان الثلاثة ، كما نحتاج إلى إستبدال العبقرية اللبنانية في الإعتماد على إستيراد المشتقات النفطية بالدولار ، بالعبقرية البريطانية التي أقامت خط كركوك طرابلس وأنشات مصفاة طربالس ، بحيث يحصل لبنان على حاجاته من المشتقات النفطية لقاء تكرير ضعف حاجاته وبيعها لحساب العراق ، وبيع ثلاثة أضعافها من النفط الخام لحساب العراق ، ولبنان الموجود على البحر المتوسط قبالة أوروبا يوفر على العراق ثلاثة أرباع كلفة نقل النفط قياسا بعبور الناقلات من البصرة نحو هرمز فباب المندب وقناة السويس وصولا للمتوسط ، وضمن خطة سنة لتشغيل الخط والمصفاة ، يمكن شراء النفط الرخيص بأسعار اليوم ووضع آلية لتقنين إستهلاكه .
إن تأمين مستلزمات الإستيراد الضروري بأسعار للدولار بين حدي 1500 و3000 ليرة مشروطة بإجازات إستيراد مسبقة من وزارات الإختصاص ، وهي وزارة الصحة ووزارة الاقتصاد ووزارة الطاقة كل في مجالها ، لن يتيح تأمين السلع الساسية بسعر ثابت ومناسب للقدرة الشرائية للبنانيين فقط ، بل سيضمن الرقابة على النوعية والتحكم بلوائح المواد والأصناف المستفيدة من هذه الميزة ، والإطلاع على الأسعار الفعلية للإستيراد ، وربط التجار بالحاجة لإجازة شراء الدولار المنخفض سيضمن تقيدهم بالأسعار التي يتم وضعها لبيع هذه المستوردات للمستهلك اللبناني تحت طائلة الحرمان من الإجازة التفضيلية ، والإضطرار لشراء الدولار بسعر السوق الحرة ، والدخول في منافسة غير متكافئة مع منافسين يحتفطون بميزة الحصول على دولار منخفض السعر لتقيدهم بتسعيرة الوزارات المختصة .