مكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين لن تحل المشكلة فهل نصدق ؟ نقاط على الحروف ناصر قنديل

نقاط على الحروف

ناصر قنديل

  • يفرح اللبنانيون بمن يقول لهم أن أزمتهم الاقتصادية تختصر بأن مجموعة لصوص سرقوا الأموال وأن وضعهم في السجون وتجريدهم من هذه الأموال هو الحل ، فالتفسير المبسط بربط الأزمة بالفساد جاذب ، ويعفي من التفكير بالتعقيدات الاقتصادية ، والأهم أنه لايدعو اللبنانيين لتقبل حقيقة أن الخروج من الإنهيار الذي يعيشون في ظله ، والمرشح للتفاقم ، يحتاج صبرا وتعايشا مع ظروف مختلفة عن تلك التي إعتادوها خلال سنوات مضت ، أنفقوا خلالها عن سنوات قادمة ، عبر الإفادة من سعر صرف ممنخفض للدولار جرى تمويله بديون سيكون عليهم تسديدها لثلاثين سنة قادمة ، وقد تكفلت حتى لآن بإستهلاك كل ودائعهم ، وها هم يصحون على الخديعة الكبرى التي لا يتسطيعون ولا يريدون تصديقها ، فيما تصطدم كل محاولة عقلانية لتشريح المشكلة الاقتصادية والمالية ، بعناد شعبوي ، يغذيه مستفيدون سياسيا من التبسيط القائم على نظرية ومؤامرة الفاسدين ، لتسليط كرة النار الغاضبة وتوجهيها لخدمة أغراض وأجندات سياسية .
  • الفساد موجود بالتأكيد ، وهو أكبر معضلة يواجهها الاقتصاد ، ولكنه ليسالفساد الذي ينتهي بالسجون والمحاكم ، الذي لا يمثل أكثر من 10% من حجم الفساد القاتل للإقتصاد والمبذر للمال العام ، فالفساد الحقيقي والتدميري كامن ، في نظام الرشوة السياسية والإجتماعية ، الذي يشكل قلب الحياة السياسية في لبنان ، فعندما ننظر لملف كالكهرباء ، الذي كلف الخزينة نزفا يزيد عن 40 مليار دولار ، نسأل ماذا لو نجح الوزراء المتعاقبون من كل الأحزاب والتيارات بحل أزمة الكهرباء كما يراها اللبنانيون ، أي تأمين الكهرباء 24/24 ، هل كان هذا النزف ليتوقف ، والجواب المرعب هو لا بالتأكيد ، لأن في الكهرباء ثلاثة مشكلات منفصلة ، واحدة خدماتية تتصل بتأمين الكهرباء للبنانيين 24/24 ، وهذه دونها عقلية المحاصصة التعطيلية للمشاريع بتناوب المعنيين فيالسلطة على التعطيل إما بإقتراح مشاريع تضمن لهم حصصا يرفضها الاخرون ، أو بهذا الرفض من الاخرين طلبا لمحاصصة مغايرة ، ودونها من جهة ثانية مصالح أصحاب المولدات وتوزعهم على القوى السياسية الكبرى ، وأغلبهم مفاتيح إنتخابية ، ووجاهات محلية ، وإقفال هذه الصناعة والتجارة القائمة على حساب المال العام ، يصيب قرابة عشرة آلاف صاحب مولد ، وقرابة خمسين ألف مستفيد يعلون في هذا القطاع المستجد ، لكن حجم تأثير إلغاء هذا القطاع على كتلة ال40 مليار دولار لا يزيد وفره عن 10% ، أما أزمة الكهرباء الثانية فهي "فسادوية" تتعلق بالسرقات والسمسرات والعمولات ، مثل صفقات الفيول باصلها وتجارتها ، والغش بنوعيته ، وعمولات التلزيمات الكبيرة والصغيرة ، وحجمها لا يصل إلى 10% من ال40 مليار دولار ، أما ال80% من الكتلة المالية التي يمثلها رقم ال40 مليار دولار فتعود ببساطة ، إلى أن لبنان زاد إستهلاكه غير المدفوع من الكهرباء مع النزوح السوري أكثر من 100% ، بينما زادت قميته بالعملة الصعبة 200% مع زيادة سعر النفط ، فيما تسعير الكهرباء على من يسددون فواتيرهم في لبنان ، وحجم الجباية ، يوفران من عائد الكلفة الإنتاجية إذا توفرت الكهرباء 24/24 ، ما لا يزيد عن 20% من قيمتها ما لم تتم زيادة التعرفة أربعة أضعاف على الأقل ، والفساد السياسي الكبير هو هنا ، أن السلطة ، فضلت ترك اللبنانيين ومعهم السوريين والفلسطينيين يستهلكون الكهرباء الرخيصة ، وتسدد من المال العام فرق الكلفة ، وتركت بعضهم ينشئ مولدات وشركات توليد محلية ، وما تقوم به السلطة هو بتخفيض الإنتاج لتخفيض التكلفة عندما يترفع سعر النفط وتكبر الفاتورة ، لأنها لا تجرؤ على مكاشفة اللبنانيين بالحقيقة ، ولا على مطالبة الهيئات الدولية الراعية للاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين ، بدفع بدلات غستهلاكهم للكهرباء على الأقل ، والسلطة لا تجرؤ أيضا على فعل ما يجب عليها فعله لحماية مصالح اللبنانيين الحقيقية  والبعيدة ، لأن السياسة في لبنان تقوم أصلا على هذا النوع من الرشاوى الداخلية والخارجية ، وأي حل اليوم للكهرباء سيعني تضاعف الفاتورة الكهربائية اربع مرات  على اللبنانيين ، بتقنين وبدون تقنين ، وبمولدات ودون مولدات .
  • بالنظر لقضية مماثلة ، هي سلسلة الرتب والرواتب ، التي ضخت منذ عام 2017 زيادة تعادل ثلث الدخل العائلي والفردي ، وزادت الإستهلاك بنسبة الثلث أيضا ، مع سعر ثابت للصرف في سوق العملات الصعبة ، توزعت إتجاهاتها على ثلاثة وجهات ضاغطة على سوق العملات الصعبة ، هي زيادة 100% في سوق العاملات المنزليات ، ومثلها في سوق شراء السيارات ، ومثلها في السفر السياحي إلى الخارج ، وهل ثمة سياسي كان ليجرؤ على رفض سلسلة الرتب والرواتب ، خصوصا أن الرفض سيكون فسادا ما لم يرفض قبله أولا التنامي الجنوني في خدمة الدين ، ويرتبط بوضع سياسية إنقاذ ونهوض شاملتين ، والفساد الكبير القائم في النظام اللبناني ، هو هذا التبادل في المصالح ، نظام مصرفي يقول للسياسيين ، من حاكم المصرف إلى أصحاب المصارف ، لا تمسوا عوائد الفائدة المرتفعة وسياسة الإستدانة والهندسات المالية ، وسنمول لكم سلسلة الرتب والرواتب الشعبوية التي تؤمن رضا قواعد مناصريكم ، وتضمن لكم الفوز في إنتخاباتكم ، وليذهب لبنان إلى الخراب ، فنحن نشتري الوقت ليس إلا ، كما فسر حاكم مصرف لبنان الهندسات المالية علنا .
  • العودة إلى الأرقام سترينا ما هو مدهش ، فالفارق بين الصادرات والمستوردات حافظ في لبنان خلال أكثر من عشرة سنوات ما بين 1997 و2007، على معدل 7 مليارات دولار عجز سنوي ، بينما ميزان المدفوعات كان يشهد فائضا تحققه عائدات السياحة وتحويلات اللبنانيين من الخارج ، وعندما بدأ يقع العجز بتراجع هذين العاملين أو أحدهما ، كانت تتكفل بتغطيته قيمة التمويل الآتي من الإستدانة الآخذة في التعاظم تحت مسميات جاذبة ، باريس 1 وباريس 2 وأخواتهما ، ومنذ 2007 حتى 2017 ، سنشهد إنحدارا جهنميا نحو هاوية سحيقة ، لم يكلف احد نفسه عناء مصارحة اللبنانيين بحجم خطورتها ونتائجها المدمرة ، فكيف يكلف أحد نفسه بالسعي لخطة إنقاذ من كارثة لا يعترف بوجودها أصلا ، فالسياسة والمال في لبنان مسألة شراء وقت ، والأرقام تقول أن فوارق الإستيراد والصادرات زادت من 7 إلى 17 مليار دولار ، وفي ذات الوقت تجمدت تقريبا عائدات السياحة والتحويلات ، ومعها بلغ الدين حجما يستحيل معه الحصول على المزيد ، فتراكم عجز ميزان المدفوعات أي فارق دخل لبنان بالعملات الصعبة عن إنفاقه لها ، ووصل العجز التراكمي حتى عام 2017 إلى 18 مليار دولار ، وماذا يفعل نظام الفساد القائم على إخفاء الحقائق طلبا لرضى الناخبيين ، سوى شراء الوقت ، فما كان سيدر ولا كانت الهندسات المالية إلا للمزيد من شراء الوقت ، بدلا من طرح السؤال ، لماذا زاد العجز في الميزان التجاري بهذا الحجم ، وكيف يمكن تصحيح بعض الخلل فيه ؟
  • الواضح أن زيادة سعر النفط كانت العامل الأهم في البداية ، ثم جاءت الحرب على سورية وفيها ، فقطعت خطوط التصدير وتراجعت الصادرات بملياري دولار ، وتدفق النازحون السوريون بتشجيع سياسي لبناني مطلوب خارجيا ، فزاد الإستهلاك اللبناني بأكثر من ملياري دولار بمزيد من الإستيراد ، وجاءت سلسلة الرتب والرواتب وزاد الإستيراد بمليارين آخرين أغلبها في سوق السيارات المستودة والكماليات ، وزاد بمليارين آخرين حجم تحويلات للبنان إلى الخارج في بندي السياحة اللبنانية في مصر وتركيا واليونان وفاتورة العاملات المنزيات ، فكيف تصرف نظام الفساد السياسي اللبناني ؟والجواب بمزيد من شراء الوقت ، بوهم سقوط سورية ، ووهم سيدر ، ووهم تراجع أسعار النفط ، وبماذا يملأ نظام الفساد السياسي الوقت الذي يشتريه ؟ الجواب بتبادل العائدات ، تمديد عمر ثقب الكهرباء تفاديا لكلفة الحقيقة ، وتمديد عمر نظام الفوائد العالية وتمويلها بهندسات مالية هي عمليا شراء آخر 10 مليارات لدى اللبنايين بصيغة ودائع ، لحساب مصرف لبنان لتمويل عجز الطلب على العملات الصعبة ، بدفع سعرها مضاعفا للمصارف باسم جذاب هو الهندسات ، شرع تسعير الدولار عمليا بضعف سعره منذ عام 2016 .
  • الجواب الاقتصادي كان ولا يزال بسيطا ، كهرباء 24/24 وتسعير بالكلفة وعائد نسبي منصف للإستثمار ، وتوفير نفط رخيص للكهرباء يخفف الكلفة على المستهلك وعلى سعر المشتقات وعلى فاتورة الإستيراد ، بوابته تفاهم لبناني عراقي سوري على تشغيل أنبوب كركوك طرابلس ، وليغضب من يغضب ، أليس الشعار هو لبنان أولا ؟ وفتح الباب للتصدير وتجارة الترانزيت ، وبوابته تفاهم مع سورية ، وتأمين عودة النازحين لتخفيض فاتورة الإستيراد ، لنعود إلى ارقام 2007 ، وقد تكفل للأسف سعر الصرف بتصحيح عكسي لقدرات اللبنانيين الإستهلاكية فإمتص ثلاثة اضعاف عائد سلسلة الرتب والرواتب ، التي طبقت للأسف أيضا على موظفين تم توظيفهم ونحن ننهار عام 2018 ، لخدمة ذات نظام الفساد السياسي ، ومن يجرؤ على القول لهؤلاء اليوم ، آسفون لا مكان لكم في الدولة ؟
  • مغادرة شراء الوقت مطلوب سياسيا ، وإقتصاديا ، وشعبيا ، فليس لدينا ترف الوقت ، لا لننتظر سيدر ، ولا لننتظر صندوق النقد الدولي ، ولا لننتظر محاكم الفساد والحل السحري الجذاب المسمى ، عودة المال المنهوب ، الشعار الذي نجيد في قلب نظامنا القائم على شراء الوقت ، والرشوة المادية والمعنوية للشعب ، أن نحوله إلى جزء من لعبة عض على الأصابع بين أطراف النظام المالي والسياسي لإعادة ترتيب معادلة شراء وقت جديد ، والوقت ينفد .

2020-05-16 | عدد القراءات 16604