أميركا تكسرت فما البديل ؟ نقاط على الحروف ناصر قنديل
ناصر قنديل
أكد ألكسندر دوجين نظريته ، وتراجع توماس فريدمان عن نظريته ، فنظرية الأول قامت ولا تزال تقوم على نفي قدرة العولمة على تشكيل بديل يرث المتحدات التاريخية التي عاشت ونمت في وعائها الحضارة الإنسانية بتلاوين مختلفة ، لأن هذه المتحدات التاريخية الحضارية ذات عمق ثقافي وإنساني لا تحتويه المصالح مهما بدت قوية وجارفة ، فهي تشكل أحد روافد تجد هذه المتحدات بألوان جديدة لا أكثر ، ولذلك كان دوجين حازما في يقينه بسقوط المشروع الأميركي لقيادة العالم بقانون الأحادية ، وصارما في الدعوة للتهيؤ لهذا السقوط ببناء إستباقي للحوض الأوراسي وركائزه الثلاثي الروسي الصيني الإيراني ، إنطلاقا من الزلازل التاريخي الذي تعيشه البشرية إنطلاقا من سورية ، حيث المشروع الأميركي يطل بآخر جيوش الليبرالية التي يمثلها ثنائي القاعدة وداعش ، كما كان مضمون كلامه وموضوع توافقنا في حوارنا الذي نشرته البناء قبل أقل من سنة في الخريف الماضي ، بينما قامت نظرية فريدمان كما شرحها في كتابه شجرة الزيتون وسيارة اللكزس الصادر في تسعينيات القرن الماضي ، على نهاية زمن الهويات كأساس لصراعات القرن الحادي والعشرين ، الذي ستحكمه سباقات السعي للرفاه ، وما تستدعيه من تنازل عن الهويات الثقافية والقومية ، وهذا معنى رمزية كتابه الذي يشرح قوانين العولمة بسقوط الهوية الخصوصية الماضوية التي تمثلها شجرة الزيتون لصالح الهوية المستقبلية الجامعة التي ترمز إليها سيارة اللكزس ، ولذلك كان فريدمان واثقا في منتصف التسعينيات عندما تناقشنا بكتابه بعد صدوره من تقدم مشروع تقوده واشنطن لإنهاء الصراع حول القضية الفلسطينية ، وصولا إلى نهاية الطريق ، وفق نظريته عن حتمية تغلب اللكزس على شجرة الزيتون ، بمقدار ما كنت واثقا من أن المشروع الأميركي الذي يعرض علينا سيارات اللكزس لنقتلع أشجار زيتوننا بأيدينا ، ملتزم عقائديا وإستراتيجيا وثقافيا بغرس المزيد من أشجار زيتون عدونا الذي يحتل أرضنا ، وإتفقنا أن التاريخ سيحكم بيننا .
العولمة وعنوانها تقدم وتراجع النموذج الأميركي ، موضوع مقالين منفصلين لكل من دوجين وفريدمان ، نشرت البناء أحدهما أمس وتنشر الثاني اليوم ، وفي المقالين يثبت دوجين صحة نظريته ويبني عليها ، ويتراجع فريدمان عن نظريته ويتوه في البحث عن بديل ، كل منهما يتحدث بلغته عن سقوط العولمة إنطلاقا من النموذج الأميركي الذي يتحطم كما تحطمت التياتنيك العملاقة جدا والجميلة جدا والعصرية جدا ، لدى إصطدامها بجبل جليد قديم جدا ، ومتجذر جدا ، وبينما ينتقل دوجين في مقالته من الترويج لمشروعه الأوراسي بصفته خيارا أفضل ، يصوغه مجددا كضرورة لا مناص منها ، في ضوء ما يحصل لأميركا ، يذهب فريدمان من التسويق للنموذج الأميركي كطريق لخلاص العالم ، ليسأل العالم عن سب لخلاص أميركا ، وبقدر ما يبدو دوجين واثقا يبدو فريدمان متشككا ، وبمقدار ما يدعو دوجين للإستثمار على قوى قائمة وسائدة وحاضرة لبناء الغد ، يحاول فريدمان أن يتفاءل بنهوض قوى كامنة لمنع وقوع الكارثة المحتمة في الغد .
يدير دوجين ظهره لأميركا ويدعو للإهتمام بالتأسيس لسوق أوراسيا الجديدة ، منطلقا من أن أميركا تتكسر ولندعها تهتم بأمورها وننصرف لأمورنا ، يظهر فريدمان غارقا في أميركيته المأساوية ، منطلقا من ذات الخلاصة ، لقد تكسرت ، وولت ، وبقياس زمن تسارع الأحداث يخشى فريدمان من موعد الانتخابات الرئاسية أن يتحول إلى مناسبة السقوط بقوة الجاذبية للنموذج الذاهب نحو الحرب الأهلية بلا كوابح ، بينما يصفق دوجين لزمن العقوبات في الشهور الباقية من عمر النموذج الأميركي ، لتسريع سقوط الدولار كحاكم للعالم لحساب تبادلات بينية تجارية وإقتصادية ستؤسس للإقتصادات الإقليمية ، التي ينشأ عنها إقتصاد عالمي جديد غير معولم ، بما تعنيه العولمة من أحادية النموذج والمرجعية ، وكلمة السر بين سطور المقالين ، ما اشبه الغد بالبارحة ، دوي السقوط الأميركي القادم سيفوق بأضعاف صوت إرتطام شظايا الإتحاد السوفياتي لحظة التفكك والسقوط .
بعض أيتام أميركا لايريدون تصديق ما يجري ، وسيرفضون الإعتراف بأبوة فريدمان لهم ، وسيتمسكون بنهاية التاريخ لفرنسيس فوكوياما رغم إنكاره للخلاصة ، وسيصفقون للعقوبات لأن تمنياتهم معلقة على خيباتهم ، بأن سورية والمقاومة بإنتظار الطلقة الخيرة التي ستسقطهم لتعلن نهاية الحرب ، ليستفيقوا ذات يوم غير بعيد على نبأ تحطم التيتانيك مرة أخرى ، لكن برحلة على مقاس الكرة الأرضية .