وليد جنبلاط والصمود بوجه "الشمولية الشرقية" نقاط على الحروف ناصر قنديل
ناصر قنديل
اشار رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط في تصريح له عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الى اننا "سنصمد بهدوء لكن بحزم، سنصمد في مواجهة التصحر والتدمير وتغيير الهوية، سنصمد في مواجهة الشمولية الشرقية دفاعا عن حرية الفكر والمعتقد والمبادرة الفردية، سنصمد امام تسخير القضاء وتطويعه، سنصمد في مواجهة الاستيلاء على القرار الوطني اللبناني المستقل، سنصمد ايا كانت الصعاب ولن نستسلم" ، ومناقشة جنبلاط هنا هي مناقشة لمن يحاول منح البعد الفكري والثقافي لمعارك يشترك معه بخوضها آخرون ، لا يجيدون فعل ذلك ، فيأتي كلامهم دون مستوى السياسة ، فيكون سوقيا مرات وطفوليا مرات ، ومراهقا أو غرائزيا أو فاضحا للنوايا أغلب المرات ، ويبقى جنبلاط أثقفهم وأحذقهم فيستحق النقاش .
كلام جنبلاط يربط بلغة اللعب على العقل اللاواعي بين الشرق كوجهة جغرافية ، وبين أنظمة الحكم الإستبدادية في الذاكرة الإنسانية التي حكمته ، فيستنبط معادلة الشمولية الشرقية ، ويربط من جهة موازية الدعوة للتوجه شرقا بمحاولة تغيير الهوية ، ويعلن حربا هادئة لكن حازمة ، لحماية حرية الفكر والمعتقد من جهة والقرار الوطني المستقل من جهة مقابلة ، فهل يستقيم الربط الأول والربط الثاني كي يستقيم الإعلان الوارد ثالثا ، واللعبة بين الظلال والضوء والمفردات والذاكرة ، فالمنادى به عمليا هو التوجه الاقتصادي نحو الصين ، وبالتوازي التوجه للتعاون التجاري مع سورية والعراق ، وليس مطروحا على الإطلاق أن يكون ذلك على طريقة الإنقلاب على العلاقات مع سائر الأسواق العربية والدولية ، فماهي صلته بالشمولية وبتغيير الهوية وحرية المعتقد والفكر والقرار الوطني المستقل ؟
الهوية التي يتحدث عنها جنبلاط هي ضمنا العادات الإستهلاكية للفرد اللبناني التي تطبعت على الأحادية الغربية ، وربما تبقى كذلك ، فالعالم كله مستغرق في هذه العادات ، بغض النظر عن صحتها أم لا ، الصين مستغرقة فيها ، ولم تتغير هويتها كي تغيرنا ، وفي أميركا بالتأكيد فإن كل الأميركيين يعيشون صرعاتها وصرخاتها ، لكنها لم تشكل لهم هم هوية لتشكل لنا هوية نخشى عليها ، وإلا علام ينفجر المجتمع الأميركي وتنتصب الحواجز بين مكوناته وتسقط مشاريع الإندماج على جدار العنصرية ، إن لم يكن على صراع هويات لم يحسم أمرها ، ماكدوناد ولا هوليود ولا البوب والجاز والجينز ، فأي هوية ستغير فينا المتاجرة مع الصين أو التوجه لإستقطاب شركاتها نحو إقامة مشاريع سكك حديدية وتطوير مرافئ وإقامة مدينة لصناعة المعرفة والتكنولوجيا الحديثة ، وهل غير إعتماد مرفأ بوسطن ومثله مرفأ أمستردام على الشركات الصينية هوية الدول الغربية ؟ وهل غيرت تفاهمات الجيل الخامس لتكنولوجيا الاتصالات بين شركة هواوي الصينية والدول والشركات الغربية هوية أحد ؟
السؤال عن حرية الفكر والمعتقد والمبادرة الفردية ، إيحاء بنظام إقتصادي سياسي ثمة من يسعى لإستيراده إلى لبنان ، ومعه الإيحاء بمخاطر على الإستقلال الوطني والقرار الوطني المستقل ، والإشتغال هنا يتم على ربط رموز إيحائية ببعضها ، فصاحب الدعوة هو حزب الله ، الملتزم بولاية الفقيه ، التي تشكل قاعدة الحكم في إيران ، والقضاء الذي يجري التأشير نحوه ، هو القاضي محمد مازح بعد قراره الخاص بتصريحات السفيرة الأميركية ، ولكن لعبة الترميز هذه تسقط بمجرد نقلها من العتمة إلى الضوء ، ومفتاحها تفكيك قضية القاضي مازح و"مشروع حزب الله" لمصادرة حرية المعتقد ، وحكاية القرار الوطني المستقل المهدد من تجارة مع الصين ، وليس من تحكم إستبدادي لا يسري على دول حلف الأطلسي ، تفرضه واشنطن ويطيعها سياسيون لبنانيون ويرفعون التبعية الذليلة للفيتو الأميركي إلى مرتبة نظرية الشرف الوطني .
السؤال البسيط في قضية القاضي مازح هو ، إذا كان حزب الله وراء موقف القاضي مازح في مسعى تهديد الحرية وتسخير القضاء ، فقد أسقط بيد القاضي مازح من قلب مؤسسة الدولة ، فهذا يعني أن حزب الله اضعف من أن يمثل قوة قائدة للدولة ، وهذا يتكرر معه بمثل ما جرى في قضية تهريب العميل عامر فاخوري ، وإذا كان حزب الله قوي وقادر لكنه لم يفعل شيئا لترجمة توجهات مخالفة لما إنتهت عليه الصورة ، فهذا يسقط مبرر الخوف المزعوم من وجود مشروع لتسخير القضاء ومصادرة حرية الرأي والفكر والمعتقد ، حتى عندما يكون الرأي والفكر هما العمالة والإجرام بعينهما ، كما هوالحال في قضية الفاخوري ، أما حكاية القرار الوطني المستقل ، فهو بالضبط ما تنشده الدعوة للتوجه شرقا ، لأن الخضوع للحملة التي تنظمها الدبلوماسية الأميركية ضد تطوير العلاقات مع الصين ، والعقوبات التي تفرضها على العلاقات مع سورية ، هي بعينها مصادرة القرار الوطني المستقل ، أليس ملفتا أن دولا في حلف الأطلسي كتركيا تتجرأ على تنويع مصادر سلاحها ، خلافا لمقاصد التهديدات الأميركية ، وتشتري من روسيا منظومة دفاع جوي ، قالت لها الدراسات العسكرية انها الأفضل ، وهو وضع يشبه حال لبنان المنتهك عسكريا كل يوم بجولات طيران جيش الاحتلال ، لكن الفارق أن في تركيا يتفوق القرار الوطني المستقل ، وفي لبنان يتفوق الخضوع ، وقد سمعنا سياسيين كبار يحذرون من تويع سلاح الجيش اللبناني ، ومنهم نبلاط نفسه ، دفاعا عن القرار الوطني المستقل !
يبقى موضع التوجه نحو سورية ، وهو أمر يدرك جنبلاط القارئ الجيد لتاريخ لبنان ، أنه جزء مكون ملازم وتأسيسي في كل نقاش سياسي بعيد عن النرجسية والعقد والحسابات الضيقة والأحقاد ، فالجغرافيا مستبدة كما يقول بسمارك وصانعة للتاريخ كما يقول نابليون بونابرت ، ولبنان في الجغرافيا غارق في حضن سورية ، وتاريخ لبنان يقول في السياسة سلما وحربا بحثا عن حليف يحمي أو عن وسيط يصالح ويرعى ، وفي الإقتصاد هربا من الجوع أو طلبا للإزدهار ، وفي الاجتماع الإنساني بحثا عن الملجأ أو تشبيكا في العائلات ، كانت سورية دائما هي الوجهة الحتمية للبنانيين ، ففي السبعينات قصدتها القيادات المسيحية عندما شعرت بخطر داهم ، وفي الثمانينات قصدها جنبلاط عندما إستشعر الخطر ، وفي المرتين قصدها الجميع إقتصاديا وإجتماعيا كملجأ من الحرب والحصار الناجم عن تداعياتها ، وهذه الحقيقة الجغرافية تاريخية ، كانت وهي قائمة وستبقى .
الأمر ببساطة أن هناك من حيث يدري أو لا يدري ، يواكب نغمة يريد لها الأميركيون أن تسود بين اللبنانيين ، نموت في الظل الأميركي ولا نمد يدنا طلبا لشربة ماء ، والأميركي لا يرحم ولا يترك رحمة الله تنزل علينا ، ويخاطبنا بلغة "رماه في اليم مكتوفا وقال له إياك ثم إياك أن تبتل بالماء " ، أو "صحيح لا تقسم ومقسوم لا تاكل وكول وشباع " ، بينما المطلوب ببساطة الإنفتاح بلغة مشتركة بين اللبنانيين على صمود من نوع مختلف عن الذي تحدث عنه جنبلاط ، صمود بوجه الجائحة الاقتصادية ، بمبادرات ومشاريع ورؤى ، لا تنتمي لمشاريع تهدد القرار الوطني المستقل وتمس السيادة فعلا ، وكل إقفال لمنافذ التنفس على اللبنانيين يهدف لخنقهم على طريقة جورج فلويد ، الذي صرخ لاأستطيع التنفس ، والتوجه شرقا مشروع تنفس لأجل الصمود ، هو بالمناسبة بعض بسيط من دعوات تاريخية للمفكر الكبير الراحل كمال جنبلاط ، الذي وجد في سحر ثقافة الشرق شيئا آخر غير الشمولية .