لودريان وخطوة نحو الفدرالية الواقعية نقاط على الحروف ناصر قنديل
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
الإنضباط الفرنسي بالسقوف الأميركية في التعامل مع لبنان ، بعد سقوط أطروحة وزير المالية الفنرسية برونو لومير بالدعوة لفصل مساعي تعافي لبنان عن المواجهة التي تخوضها واشنطن مع طهران ، كان إنضباطا واضحا ودقيقا خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان إلى بيروت ، وكل الحديث عن وجود شروط إصلاحية لفتح الطريق للمساعدات هو للتغطية على الإنضباط الفرنسي بالمحظورات الأميركية ، ودعوة لومير كانت تتضمن الشروط الإصلاحية لكن على طريقة مختلفة كتلك التي طرحها لودريان ، تعبر عن جدية لا عن نفاق سياسي كما هو الحال اليوم ، فلومير دعا لعقد جولة خاصة لمؤتمر سيدر والمانحين لأجل تحديد القطاعات التي تحتاج دعما ووضع دفتر شروط دولي لإصلاح وتمويل كل منها ، ليسيرا معا بالتوازي إصلاحا وتمويلا ، وبالتأكيد كانت الحكومة اللبنانية لتوافق فورا على مثل هذا المسار ، وتلتزم بدفتر الشروط الخاص بكل قطاع ، لكن طريقة لودريان هي عمليا طرح ذريعة قابلة للتكرار لسنوات ، أنتم لم تقوموا بما يكفي لتستحقوا المساعدات ، وهذا هو السقف الأميركي ، فماذا فعل لودريان ؟
إرتضت فرنسا دور وكيل الضغوط الأميركية ، وتنازلت عن دور الشريك المستقل ، فجاء وزير خارجيتها ليقول أن الأزمة طويلة وأن الأموال ستتأخر ، وهذا يعني أن الدولة ومؤسساتها سيضمر ويتراجع تاثيرها في النشاط الحياتي والإقتصادي ، ويرتفع منسوب ضعفها وتتراجع مداخيلها ، وتضعف فاعلية مؤسساتها الخدماتية وخصوصا الأمنية والعسكرية ، وبالمقابل يفتح لودريان الباب لمسار مواز ، هو مسار المساعدات الطائفية ، فيقول للبنانيين لن نترككم للجوع ، كل دولة ستهتم بطائفة ، ففرنسا تعهدت الموارنة والكاثوليك وعلى روسيا أن تتهد الأرثوذكس وبريطانيا تهتم بالإنجيليين ، وبالأمس أعلنت تركيا عن توزيع مساعدات في عكار وستوسع الاهتمام ، وقد تدخل السعودية على خط تبني مدارس ومستشفيات ذات لون طائفي ، ومثلها بالطبع ستكون إيران معنية بمؤسسات لون طائفي آخر ، وهذا لن يبقى عند حدود المدارس ، بل سيتوسع نحو المستشفيات ومؤسسات رديفة لمؤسسات الدولة ، فيما مؤسسات الدولة تضمر وتتراجع وتفقد قدرتها على تقديم الخدمات الموازية .
المسار الذي يفتتحه لودريان ظاهره قد لا يلفت الإنتباه إلى مؤداه والنتائج التي ستنجم عنه ، فإذا نجحت محاولة فرضه مسارا لتصغير حجم دور الدولة ، وتكبير حجم المؤسسات الطائفية ، وزيادة إعتمادها على دعم خارجي يعتمد توزيعا لمناطق نفوذ لعدد من الدول في لبنان كبديل يحل تدريجيا مكان الدولة ، على أساس الهوية الطائفية ، فإنه يصير مفهوما معنى حديث لودريان عن دعم دعوات الحياد التي أطلقها البطريرك بشارة الراعي ، بحيث تصير لكل منظومة طائفية ملحقة بعاصمة خارجية ماليا سياسة خارجية خاصة بها ، ليظهر أن دعوة الحياد ليست موجهة للبنانيين بوهم تحولها سياسة للدولة اللبنانية ، بمعزل عن كيف يفكر بالدعوة أصحابها ، بل هي دعوة موجهة للخارج الذي سيشكل الراعي الحقيقي للطائفة ولسياستها الخارجية ، مقابل الدعم المالي الذي سيجلبه هذا الخارج لإنعاش مؤسسات الطائفة ، ومقابل الحياد سنسمع غدا عن دعوات للعروبة من بوابة الخليج مقابل دعم وتمويل وتنشيط مؤسسات تربوية وصحية كالمقاصد ، وعن سياسة أوراسية للأرثوذكس مقابل دعم جامعة البلمند ومستشفى الروم ، وتصير سياسة المقاومة محصورة بالشيعة ، وتصير المرجعيات السياسية في طوائفها أو التي لا تمثل بعدا طائفيا ، التي لا يتم إعتمادها من الخارج مهددة بالتراجع لضعف المقدرات والعجز عن تلبية الإحتياجات ، ورهانها على الدولة يفقد بريقه بعيون اللبنانيين المحتاجين .
سنشهد المزيد على هذا الطريق لتفكيك الدولة والعودة بنا إلى منتصف القرن التاسع عشر وحكم القناصل ، ما لم ينهض مشروع الدولة كجواب موحد مستقل يواجه من خلاله اللبنانيون أزماتهم ، ويربطون كل مساهمة للخارج بمعابر الدولة الإلزامية ، وشرط ذلك أن تملك الدولة شجاعة السير بالخيارات التي تلبي حاجاتها وحاجات مواطنيها ، وتغادر أسلوب التلميذ الشاطر الذي ينتظر الرضا الخارجي ، قبل أن تحزم الصين أمرها وتعتذر عن عروضها ، لأن ليس في لبنان طائفة بوذية أو كونفوشية تتبناها .