من حسنات دعوة الحياد أنها أنهت خلط الأوراق نقاط على الحروف ناصر قنديل
ناصر قنديل
جرب الأميركيون ومعهم كل الغرب توظيف غضب الشعب اللبناني على فساد مؤسسات الدولة وسوء السياسات المالية لمن تولوا الحكم وإدارة الاقتصاد لثلاثة عقود ، برعاية أميركية غربية خليجية ، لتحويله إلى قوة ضغط من أجل تحقيق أجنداتهم ، وهي تتصل أصلا بالسياسة إتصالا وثيقا ، ومحورها تغيير موقع لبنان القوي في مواجهة كيان الاحتلال وجيشه إلى خاصرة رخوة ، وكان معيار النجاح بذلك هو تحقيق شرطين ، الأول القدرة على نقل المناخ الشعبي الجامع والواسع من الغضب على السلطة إلى غضب على المقاومة ، سواء وفق نظرية تحميل إنخراطها الإقليمي مسؤولية منع المساعدات أو إتهامها بأنها تحمي النظام أو أنها تتولى تخريب الاقتصاد بالتهريب والسيطرة على عائدات الدولة ، والشرط الثاني إقفال الطرق الأخرى والخيارات الرديفة التي يمكن أن تطرح لمواجهة الإختناق المعيشي الناتج عن الحصار الذي يفرضه الأميركيون وما يرتبه من جفاف في موارد العملات الأجنبية وغلاء وشح في الموارد .
خلال تسعة شهور تلخصت نتائج الرهان الأميركي والغربي الذي ينضوي تحت لوائه صرف نفوذ حكام الخليج ، بظهور ترابط سببي واضح بين كل محاولة لرفع منسوب السياسة في خطاب مجموعات مرتبطة بهم أسندوا إليها قيادة الإنتفاضة ومكنوها من السيطرة عليها بواسطة وسائل الإعلام المدعومة ، وبين تراجع زخم الحضور الشعبي في الفعاليات التي تنظمها وتدعو إليها هذه المجموعات ، من جهة ، ومن جهة موازية بين ظهور إنقسامات حادة داخل الجسم الشبابي للحراك الذي يضم مجموعات ترفض تسييس الغضب الشعبي ، ومجموعات ترفض خصيصا تحويل زخمه بوجه المقاومة ، التي تشكل بنظرها آخر من يجب لومه على الأزمة الإقتصادية ، أو التي تشكل عندهم خطا أحمر في السياسة يجب الحذر من الإقتراب منه بلغة الإتهام والإستهداف لأنهم يدركون أن هناك من يريد تدبير هذا الإنحراف في مسار الحركة الشعبية .
خلال تسعة شهور تلخصت نتائج الرهان الأميركي والغربي ومن معه ، بأن حقق خيار التوجه شرقا والعرض الإيراني لتأمين المشتقات النفطية بالليرة اللبنانية والدعوة للنهوض الإنتاجي ، إختراقات كبيرة عمليا بتقدمه كخيار واقعي بديل عن إنتظار التسول على أبواب الأميركيين والغرب وحكام الخليج ، وسياسيا لجهة تحوله إلى فرضية مقبولة لدى الأوساط الحكومية والسياسية التي كانت تضع رهانها على الموقف الغربي والعربي عموما والأميركي خصوصا ، بعدما سئمت الإنتظار بلا جدوى ، فتحركت الاتصالات الحكومية الجدية وبدعم رئاسي وسياسي من مكونات الحكومة النيابية ، وبتفهم شعبي ، وفي ظل ضمت الخصوم السياسيين وعجزهم عن الإعتراض والمواجهة ، وبدا أن هذا الخيار سيتحول إلى وجهة جديدة يسلكها لبنان .
أمام فشل الرهان على تحقيق الخطة التي رسمت لركب الإنتفاضة الشعبية والسطو عليها ، وتوظيفها في مشروع حصار المقاومة ، وسقوط فرص تحقيق الشرطين المطلوبين ، إنقلب الأميركي والغرب ومن معهم على معادلة الإنتفاضة وسقفها القائم على الإبتعاد عن السياسة والإكتفاء بالقضايا الاقتصادية والمالية عنوانا لها ، وكان إختبار السادس من حزيران والتحرك المناهض للمقاومة وسلاحها تحت عباءة الإنتماء للإنتفاضة آخر الفرص التي منحت للجماعات التي يشغلها الحلف الأميركي الغربي الخليجي ، وباءت بالسقوط المدوي ، وتبلور القرار البديل ، العودة إلى ساحة الحضور المباشر بعروض دعم مالي مشروطة سياسيا علنا ، وإعادة الحياة على اساسها إلى إستقطاب 8 و14 آذار ، الذي تم تجميد نصفه بقرار إصطفاف قوى 14 آذار تحت عباءة الإنتفاضة وشعاراتها والتخلي عن السياسة ما أمكن لحساب ذلك ، إنطلاقا من إستقالة الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري .
من حسنات دعوة الحياد أنها أنهت مرحلة من التلاعب السياسي كان عنوانها تمويه القضايا الخلافية بخدعة تريد القول أن اللبنانيين مجمعون على أن مصدر أزمتهم هو وجود المقاومة ، وأنها مثلت إعترافا بالإنقسام السياسي حول العناوين الكبرى ، وكشف حقيقة أن الأزمة الاقتصادية والمالية مجرد عتبة مرسوم لها فرض تحولات في موقع لبنان من الصراع الإقليمي وعنوانه الرئيسي أمن كيان الاحتلال والتهديد الذي تمثله المقاومة لهذا الأمن ، وهذا هو جوهر الوظيفة التي يراد لدعوة الحياد تحقيقها ، فمرحبا بالوضوح ولو أدى إلى الإنقسام ، وليكن التباري الواضح باللغة الراقية ليظهر كل فريق ما عنده ويطرح مشروعه في التداول ، ولتتنافس المواقف والخيارات أمام عقول اللبنانيين ، دون تمويه وخداع ، بعدما أعلن الأميركي والغرب وحكام الخليج دفن الإنتفاضة ، والعودة إلى إصطفاف أيام قرنة شهوان ، وهم يحاولون الإنتقال إلى أيام لقاء البريستول .