زمن التطبيع يوسّع ساحة الصراع

يبدو بنظر بعض أصحاب القراءات المتسرّعة والسطحية أن قرارات التفاهم التي أعلنتها دول خليجية، مع كيان الاحتلال، وتعلن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن دولاً أخرى عربية وإسلامية ستلحقها، هي تضييق لمساحة الصراع الذي يواجهه كيان الاحتلال، بعد خروج هذه الدول من ساحة الصراع، بينما الحقيقة السهلة والبسيطة التي يقدمها لنا التاريخ مجاناً هي أن هذه الدول لم تكن على الأقل منذ قرابة نصف قرن جزءاً من حالة الصراع مع الكيان، وأنها منذ عقود هي في حال تعاون مع هذا الكيان أمنياً وسياسياً واقتصادياً، وأنها بتبعيتها للولايات المتحدة الأميركية وانخراطها في حروب علنية ضد قوى المقاومة منذ حرب تموز عام 2006، والحرب المفتوحة على سورية، وصولاً إلى حرب اليمن، تحوّلت إلى رصيد احتياطي لحساب الحروب الإسرائيلية، ولا يغيّر إعلانها للتطبيع مع الكيان من موقعها إلا أنه ينقل للعلن ما كان سرياً.

ساحة الصراع كانت أضيق قبل هذا الإعلان لسبب بسيط هو أن قوى المقاومة ودولها كانت تحيّد هذه الدول عن دائرة المواجهة، حتى وهي تعلم حجم تورطها مع الكيان، حرصاً على ترك الباب مفتوحاً لعودتها إلى مواقع أقلّ تورطاً، وعندما كانت المواجهة تفرض على قوى المقاومة كحال الحربين على سورية واليمن، فإن قوى المقاومة كانت تخوضها موضعياً دون إعلان حال الحرب، بينما كان الوضع الفلسطيني مختلفاً، فقد كانت هذه الدول ترتبط بعلاقات وثيقة مع السلطة الفلسطينية وتضعها بصورة أو بأخرى ضمن محورها الإقليمي، على قاعدة الاصطفافات التقليدية التي كانت تسود المنطقة، ومن دون أن تغير قوى المقاومة من موقفها وأسلوب تعاملها مع هذه الدول، فإن التطبيع سيخلق سياقاً يسرّع بجعلها هذه المرة جزءاً من الصراع ولو من موقع مقابل.

التطبيع سيجلب مخابرات الاحتلال إلى مجتمعات هذه الدول والتنسيق الأمني الذي حرص قادة الكيان على تظهيره كبند من التفاهمات في مواجهة محور المقاومة تحت شعار العداء المشترك لإيران. والتطبيع سيجلب مؤسسات مالية مصرفية وخدميّة وبضائع «إسرائيلية» إلى أسواق هذه الدول. والتطبيع سيجلب، وقد جلب تصعيداً في خطاب المرارة الفلسطينية الجامعة من الغدر والخيانة والتآمر، وسيرفع منسوب التوتر داخل فلسطين وخارجها، حيث يوجد شتات فلسطيني، وخصوصاً في هذه الدول، والسياق الذي يتضمنه خطاب حكام هذه الدول يقوم على ادعاء له مغزى، قوامه أن التطبيع هو جزء من سياق الدفاع عن حقوق الفلسطينيين وليس التفريط بها، سواء عبر مزاعم تجميد الضم لقاء التطبيع، وهو ما كذّبه قادة الكيان ونفاه قبل يومين السفير الأميركي لدى الكيان، أو عبر الادعاء أن محصلة التطبيع ستنعكس باقتراب «إسرائيلي» من حل الدولتين. وهو الأمر الذي تكفي لتكذيبه نصوص صفقة القرن التي أعلنها الراعي الأميركي للتطبيع كمشروع علني لتصفية الحقوق الفلسطينية وفي مقدمتها القدس وحق العودة ومصير الأراضي المحتلة عام 67 ومن ضمنها مصير المستوطنات. والمغزى الذي تكشفه هذه المزاعم هو أن كل عمليات غسل الدماغ والحروب الإعلامية والنفسية الممتدة لسنوات لترويض الشعوب تحت عنوان أولوية المواجهة مع ايران لم تنجح بشطب القضية الفلسطينية كأولوية على مستوى الشعوب.

السياق ما بعد التطبيع سيكون واضحاً، أولاً لجهة تظهير كذب الحكام وإسقاط مزاعمهم، بالحفاظ على موقف داعم للقضية الفلسطينية بعدما اسقطوا من أيديهم الورقة الوحيدة التي كانت ذات قيمة تفاوضية يمكن أن تعزز موقع الفلسطينيين وهي الاعتراف والتطبيع، ولم يعد لهم أي قيمة تذكر بعدما نال الإسرائيلي منهم ما يريد. والسياق الناتج عن التطبيع سيكون تصاعداً في وحدة الموقف الفلسطيني الشعبي والسياسي وترجمة هذا التصعيد في ارتفاع منسوب الانتفاضة والمقاومة داخل فلسطين. وهذا سيتكفل كما تقول الوقائع السابقة بتحريك موجات التضامن الشعبية في كل الساحات إلى جانب فلسطين التي ثبت أنها لا تزال أولوية شعبية لم يستطع الحكام الذاهبون للتطبيع تمرير خطواتهم إلا بربطها بمزاعم تخديم القضية الفلسطينية في محاولة خداع لن يطول لشعوبهم.

السياق ما بعد التطبيع سيكون تصاعداً في التوتر الإقليمي وزوال حتمي لمحرمات كانت موضع احترام كخطوط حمراء، سواء بالنسبة لما سيكون عليه وضع اليمن تحت العدوان وكيفية مواجهة تورط هذه الدول في الحرب والعدوان، وانكشاف تخديمها للمشروع الإسرائيلي، أو لما سيترتب على استحضار المشاريع التجسسية والتخريبية الإسرائيلية التي تستهدف إيران، والتي ستكون عن قرب عبر أراضي هذه الدول جزءاً من الحرب الإسرائيلية مع إيران وعبرها مع محور المقاومة، وفي البعدين سيتكفل «الإسرائيلي» بتوريط هذه الدول علناً في ما يتكفل بجعلها ساحات للصراع، وتعريض أمنها للاهتزاز بدلاً من أمنه، وهذه هي إحدى وظائف التطبيع، نقل المعركة إلى أراضي الغير، فأن تدمر اقتصادات ومدن غير اقتصادات الكيان ومدن استيطانه في قلب الحرب التي يخوضها، هو الهدف الأساس لمفهوم التطبيع، لأن قادة الكيان يعلمون يقيناً أن لا قيمة لتطبيع يقرره الحكام ولا تقبله الشعوب لجهة شرعنة الكيان إلا في الاحتفالات الإعلامية، ونتائجها القصيرة المدى انتخابياً، وتجربة مصر ماثلة أمامهم، لجهة سقوط مشاريع التطبيع في حسابات الشعوب.

2020-09-18 | عدد القراءات 18620