ناصر قندیل
- عندما انطلقت الجموع الغاضبة في 17 تشرین الى الشوارع لم یكن للشعب قیادة یؤمن بمرجعیتها ،
ویثق بأهلیتها ، ولم تتح لأحد من المشاركین المنفردین الذین شكلوا الطوفان الشعبي الكبیر یومها ،
أن یشترك لا في صوغ الشعارات ولا في تحدید السقوف السیاسیة ، بل وضعت مجموعة مكونة من
مصدرین إثنین یدها على التحرك ونالت فرصتها لإكتساب ثقة الجمهور الواسع ، عبر ما یسمى
بالتصویت بالأقدام ، اي المشاركة اللاحقة والمستدامة بتلبیة دعوات التظاهر ، وكان شعار "كلن
یعني كلن" هو عنوان المعركة التي قررت هذه القیادة خوض شرعیتها على اساسها ، اما
المصدرین لتكوین القیادة فقد تشكلا من المجموعات المنظمة القادرة على تنظیم حشود مؤیدیها او
ادارة الحشود الوافدة من جهة ، والقنوات التلفزیونیة التي منحت یثها المباشر للتحرك وصار
مراسلوها ومذیعوها رموزا للتحرك یشتركون عبر أثیر قنواتهم في صناعة القیادات وتظهیرها ،
وفي رسم الخطوات وتحدید وجهتها ، وفي الترویج للشعارات ومحاولة تعمیمها ، ویمكن القول في
الحصیلة بعد اقل من عام على التحرك ، أن التصویت الشعبي جاء في غیر صالح هذه القیادة ،
وأنهى مهمتها رغم إصرار مجموعاتها على إحتكار تسمیة فضفاضة الثوب على أصحابها ،
"الثوار" ، وفي ظل جفاف موارد المشاركة الواسعة في التحركات ، رغم بقاء الأسباب وتفاقم
الأزمات .
- في الغالب لعب المال دورا محوریا في عملیة تظهیر القیادة وشعاراتها ، فبلا المال تتوقف القنوات
التلفزیونیة عن البث في ظل شح موارد الإعلان ، وهي الحامل الأقوى للقیادة ، ولولا المال تصاب
الجماعات المنظمة بالشلل ، والمال لیس مجانیا ومصادره لیست وافرة ، ولا مبهمة ، فهي في
الغالب أیضا من دول مقتدرة لها سیاسات ومشاریع ، وهي بالتحدید ثلاثة دول إقلیمیة خلیجیة هي
قطر والإمارات والسعودیة تتوزع تمویل ثلاث قنوات تلفزیونیة كبرى رعت الحراك وتولت توحید
الشعارات رغم تباینات دولها ، ما یجعل القیادة عند مرجعیة أعلى هي المصدر الدولي للقرار
والتمویل الذي تتوزعه ثلاثة مصادر واشنطن وباریس والإتحاد الأوروبي ، ولن نحتاج لكثیر عناء
لنكتشف أن واشنطن كانت من یتولى القیادة ، ولیس من خارج السیاق الكلام الذي صدر عن
الأمیركیین والفرنسیین بعد إنفجار مرفأ بیروت عن التوجه نحو منظمات المجتمع المدني لتوزیع
المساعدات بدلا من مؤسسات الدولة تلافیا للفساد ، الذي تصاعدت فضائحه بسرعة مع تدفق المال
والمساعدات على هذه المنظمات ، كما لیس خافیا إصرار معاون وزیر الخارجیة الأمیركیة دیفید
شینكر في زیارته الأخیرة إلى بیروت على تظهیر مكانة هذه الجماعات في سیاسة واشنطن ، رغم
الكلام القاسي الذي سمعوه منه داخل اللقاءات .
- الشعار "كان یعني كلن" لم یكن عبثیا ، فقد كانت له وظیفتان ، الأولى نفي أي شبهة تورط
للجماعات المنظمة بالتحالف مع أي من مكونات السلطة ردا على تشكیك شعبي واتهامات علنیة
بتلاقي الجماعات الواقفة وراء قیادة التحرك مع سیاسات خارجیة تستهدف نصف السلطة بخلفیة
موقفها من المقاومة ، وتدعم بالمقابل نصفها الاخر ، فیحقق الشعار كلن یعني كلن النفي المطلوب
لهذا الإتهام والتشكیك ، أما الوظیفة الثانیة فهي شیطنة الفریق الواحد الموجود خارج منظومة الحكم
والسلطة ، الذي یمثله حزب االله ویرمز للمقاومة ، وضمه للإستهداف تمهیدا لجعله العنوان الأول
المستهدف تالیا كما حدث لاحقا بالفعل ، بحیث بقي شعار "كلن یعني كلن" بدایة أسیر العجز عن
توجیه الإتهام للمقاومة كشریك في الفساد فكان الإتهام ناعما بإتهامها بأنها لم تحارب الفساد ،
وصولا إلى الإتهام الشدید الخشونة والحصري نحوها في تظاهرة 6-6 تحت شعار تطبیق القرار
. 1559
- بعد كل هذا سیحق لنا أن نستعیر الشعار "كان یعني كلن" مرة في ضوء إنضمام منظمات المجتمع
المدني إلى نظام الفساد والطائفیة بصورة رسمیة مكرسة ، لیصیر مدى الشعار أوسع فیطال تحت
مظلته هذه المنظمات ، ومرة ثانیة في ضوء الأزمة الراهنة التي تنوء البلاد تحت ثقلها ، وإنسداد
الباب أمام الحلول ولو المؤقتة ، وإلتقاء كل القوى السیاسیة المكونة للسلطة ومؤسساتها للتبشیر بأن
الحل بدولة مدنیة وبأن النظام الطائفي قد سقط ، ولیس من باب الصدفة أن تلتقي معها منظمات
المجتمع المدني في ذات التبشیر ، لنقول ایضا "كلن یعني كلن" لیس بمضمون ما نسمع منهم من
دعوات ، بل كلن یعني كلن غیر مؤهلین لقیادة البلد نحو الدولة المدنیة ، ذلك أن الطرح یأتي بابا
للتلاعب بالمضمون والشكل ، وهروبا من مواجهة أزمة جدیة یعرفون أن ربط حلها بقیام دولة
مدنیة على أیدیهم أقرب لحلم لیلة صیف .
- لا تستقیم الدعوة للدولة المدنیة مع الدفاع عن مصالح طائفیة ، وهذا یشمل الجمیع مهما اختلفت
مشروعیة التبریرات المستوحاة من قلب النظام الطائفي ، الذي لا یزال یشكل أرض الصراع
وتشكل وصفة الدولة المدنیة دعوة تعجیزیة متبادلة بین أركانه ولیست مشروعا جدیا ینطوي على
التسلیم بالخروج من النظام الطائفي ، فحصریة حقیبة المال التي یطلبها الثنائي مطلب طائفي ،
بغض النظر عن مندرجاته كعرف أو كمطلب مشروع للتوزان الطائفي في نظام الطوائف ، وتاریخ
تولي وزراء الثنائي لحقیبة المال لا یقدم سجلا مغایرا لمسار السیاسات المالیة التي أودت بلبنان الى
الازمة الخانقة بشكلها الراهن تجعل المطلب عنوانا اصلاحیا ، ودعوة رئیس الجمهوریة والتیار
الوطني الحر لالغاء طائفیة الحقائب السیادیة لا تجعلهما أكثر مدنیة ، في ظل احتجاز مراسیم
الفائزین في مباریات مجلس الخدمة المدنیة تحت ذرائع حقوق الطوائف ، ولو خالفت نص الدستور
بالغاء طائفیة الوظیفة بما دون الفئة الأولى ، ومداورة الوزارات بین الطوائف المنطلقة من أن لا
نص على تخصیص وزارة بطائفة ، یدحض صدقیتها إدارة الظهر لنص دستوري واضح على
رفض تخصیص وظیفة من وظائف الفئة الأولى بطائفة ، والتمسك بهذا التخصیص خلافا للنص
مقابل المطالبة بنص لقبول تبریر تخصیص وزارة حیث لا نص یمنعه بمثل ان لا نص یدعو الیه ،
اما نادي رؤساء الحكومات السابقین الذي تحمل رموزه مسؤولیة رئاسة الحكومة لإدارة البلد نحو
الهاویة خلال ثلاثة عقود ، فلا مصداقیة لدعوته لتحریر الحكومة من الحصص بعدما وضع یده
علیها كحصة كاملة من خلال احتكار تسمیة رئیسها دون امتلاك الأغلبیة النابیة ، والطعن
بالمصداقیة مكرر عندما یكون مبرر نیله "حق" التسمیة قد جاء بقوة میثاقیة طائفیة یرفض معاملة
الغیر بمثلها ، ولذلك یصیر شرعیا ومشروعا القول "كلن یعني كلن" لا یشكلون قیادة صالحة لأخذنا
نحو الدولة المدنیة .
- كلن یعني كلن ، تطال أیضا هنا منظمات المجتمع المدني والكثیر من النخب التي تتحدث بلغة
لاطائفیة لإدانة من تتهمهم بالطائفیین ، ثم تدافع بلغة طائفیة عندما یتصل الأمر بجماعتها الطائفیة ،
فكیف تكون جمعیة او یكون مثقف من الطراز المدني ، ویصرحون بالتمجید لمرجعیة طائفیة ،
خصوصا في اطلاق مواقف تنضح بالشحن والتحریض الطائفیین ، وكیف یكون لاطائفیا ومدنیا من
یصف طائفة بالسوء ویتحدث عن امجاد طائفة اخرى بالمقابل ، وبماذا یختلف هذا العقل عن العقل
المیلیشوي الذي هتف لطائفته او یحمل شعار اعرف عدوك لتوصیف طوائف اخرى ؟
- لكن ، وهنا نقول لكن ، لنفتح قوسین على معادلتین ، الأولى ان لبنان بقواه السیاسیة ونخبه یحتاج
للكثیر كي ینضج للإنتقال نحو الدولة الدولة المدنیة عاجز بذات القوة عن المضي في ظل النظام
الطائفي الى غیر الهاویة ، لذلك فالمطلوب هو عدم التذاكي بطرح تعجیزي للدولة المدنیة والذهاب
لتطبیق الدستور الذي تفوق على التذاكي الطائفي في رسم المخارج الواقعیة والتدریجیة ، خصوصا
المادتین 22 و95 ، باقرار قانون انتخاب خارج القید الطائفي وتشكیل مجلس للشیوخ ، والاسراع
بتشكیل الهیئة الوطنیة لإلغاء الطائفیة التي یفترض كان تشكیلها مع اول مجلس نیابي منتخب على
اساس المناصفة قبل قرابة ثلاثة عقود ، وتحریر وظائف الفئة الاولى فورا من التخصیص الطائفي
وفقا لنص دستوري لا یقبل التأویل والتأجیل ، وتحریر ما دونها من كل معیار وحساب طائفي ، ولا
حق لأحد بالتأجیل والتملص من هذه الإستحقاقات طالما الكل یتحدث عن الدولة المدنیة ویحتكم
للدستور ، فمن یدعي القدرة على السیر بالأكثر مطالب بإثبات الإستعداد للسیر بالأقل ، ومن یتحدث
عن الدستور مطالب بتطبیقه ، والمعادلة الثانیة ل"لكن" هي أننا رغم كلن یعني كلن في العجز عن
السیر بالدولة المدنیة ، لانستطیع أن نفصل بین الحملة على المقاومة المنتمیة قوتها الرئیسیة الى
مكون طائفي یمثله الثنائي ، وبین المعركة على العناوین المتصلة بتشكیل الحكومة وتحویلها
لاستهداف الثنائي وصولا لاتسهداف معلن للمقاومة ، وفي هذا الشأن "لكن" كبیرة ، تماما كما كان
الحال مع شعار كلن یعني كلن یوم انطلاقه ، وما إنتهى الیه من مشروع استهداف للمقاومة ،
بتحمیلها زورا أوزار ومسؤولیة كل الازمات
2020-09-23 | عدد القراءات 3255