فرنسا ليست فاعل خير وليست مجرد مستعمِر قديم

يضيع الكثيرون في قراءة الدور الفرنسي المستجدّ على مساحة المنطقة انطلاقاً من سعي حثيث لدور في لبنان، بين تطرفين، تطرف ساذج يفترض أن فرنسا بحكم علاقتها التاريخية بلبنان ترغب بمد يد العون له للقيام من حفرة السقوط المالي، وتطرّف عقائدي لا يرى الا الوجه البشع لفرنسا كمستعمر قديم يحلم باستغلال الأزمة اللبنانية لاستعادة مكانته كمستعمر، وفرنسا التي قد يصح قليلاً في تفسير نظرة مجتمعها وبعض نخبها بعض من القراءة الأولى يصح كثيراً في قراءة مشاعر قادتها وأحلامهم كثير من القراءة الثانية، لا يمكن اختصار وتفسير حركتها بكل من القراءتين.

الأكيد ان فرنسا التي تعرف كدولة وازنة في أوروبا ان السياسة الاميركية باتت عاجزة عن ملء الفراغ الاستراتيجي في الشرق لا تملك تقديراً منصفاً للمخاطر المحيطة بأوروبا وان امتلكت فهي لا تأبه لما يصيب أوروبا إن كان طريقاً للمصالح الأميركية، ولذلك لم تجد فرنسا التي كانت تتصلب في مفاوضات الملف النووي مع ايران أكثر من المفاوض الأميركي، ان الخروج الأميركي من التفاهم النووي طريقاً صالحاً لمعادلة قابلة للحياة في المنطقة، فاختارت مع دول اوروبية لا تملك مواقف إيجابية نحو ايران كحال بريطانيا، ودول تنظر بعين المصلحة الاقتصادية الصرفة كألمانيا، خوض طريق المعارضة والمواجهة أحياناً مع السياسات الاميركية تجاه الملف النووي الايراني وآخرها محطات مجلس الأمن الدولي التي وقفت فيها الدول الاوروبية وروسيا والصين صفاً واحداً في وجه المساعي الأميركية لتجديد حظر السلاح على ايران الذي ينص الاتفاق النووي على سقوطه التلقائي في موعد يستحق هذه الأيام، ومثله في الموقف من المسعى الاميركي لتفعيل العقوبات الاممية على ايران.

الاوروبيون عموماً والفرنسيون خصوصاً خاضوا مع اميركا وتحت قيادتها حرب ليبيا وحرب سورية، وفي الحربين خرجوا خاسرين، ومن نتائج الحربين لم ينل الاوربيون الا تصاعد موجات النزوح نحو بلادهم، وتزايد وتصاعد موجات الإرهاب والتطرف تهدد امنها، بينما خسروا الاسواق، واحتكر الأميركي سطوته على الخليج، وعزلهم عن المشرق، بداعي المواجهة مع إيران وسورية وقوى المقاومة، ويرى الأوروبيون بعيون مجردة ان المزيد من الضغوط الاميركية المالية في المنطقة سيؤدي لسلوك طرق بديلة لن تؤتي ثماراً سريعة لكنها ستحفر عميقاً لخيارات يصعب إلغاء نتائجها، فايران مضت في طريق الاعتماد على الذات وصارت بلداً مختلفاً عما كانت قبل الحصار والعقوبات، وقبلها الصين، والدولتان لن تترددا في فتح الطريق اما سورية ولبنان لتكونا امتداداً لتعاون صيني ايراني بات معلناً ويتسبب بالصداع لصناع القرار في واشنطن وباريس.

يسعى الفرنسيون ومن دون التصادم مع الاميركيين لصياغة مقاربة تتيح التهدئة، وتخفيض منسوب التوتر، بمقايضة ضمنية مختلفة عن التي يعرضها الأميركيون، فالمقايضة المعروضة من الأميركي تقوم على الحصول على ضمانات لأمن «اسرائيل» مقابل الانسحاب الأميركي من المنطقة وإبقاء سيف العقوبات والتهديد بالانهيار الاقتصادي للتفاوض مقابل الملف النووي الإيراني، بينما المقايضة الفرنسيّة المعروضة هي تبريد التوتر بفتح الباب لانتعاش مالي يمنع الانهيار، ويقطع طريق البدائل المنافسة للغرب، ويضمن بمجرد تكريسه منع نشوب حروب في المنطقة يخشى الأميركي والفرنسي منها على «اسرائيل».

المقاربة الفرنسية تعيد إنعاش مكانة فرنسا وتحفظ لها مصالح حيوية، لا يمكن وصفها بفعل الخير المجاني، لكنها مقاربة عقلانية في مواجهة طيش وعشوائية من الجانب الأميركي، وفتح الباب المشروط والحذر لتحويل المقاربة الفرنسية مشروعاً تفاوضياً بالتوازي مع القلق الفرنسي من التمدد التركي، يستند الى توازن قوى ومصالح ما يحول دون تصويره خضوعاً لوصاية.

ناصر قنديل

2020-09-25 | عدد القراءات 4156