ناصر قنديل
- راجت منذ لحظة إنتهاء المؤتمر الصحفي للرئيس الفرنسي امانويل ماكرون قراءة
بدت موضع اجماع من خصوم حزب الله واصدقائه ، وهذا بحد ذاته امر غريب وملفت
للنظر ، محورها ان خطاب ماكرون يمثل تحولا في النظرة للعلاقة مع حزب الله باتجاه
التصعيد ، وان ماكرون حمل حزب الله مسؤولية إفشال مبادرته في لبنان ، وإستخدمت
في تبرير هذا الإستنتاج مفردات الخطاب التنديدي بدور الحزب في سورية ، وبوصفه
مستقويا بالسلاح في الداخل ، يرهب به خصومه ويسعى للتصرف كأنه أقوى من
الآخرين ، ودعوته للاقتناع بعدم اخذ الشيعة اللبنانيين نحو الخيار الأسوأ ، وقبول
القواعد الديمقراطية ، هذا من جهة ، و من جهة ثانية تركيز حجم رئيسي من كلام
ماكرون في نص المؤتمر والإجابة عن الأسئلة حول حزب الله .
- لا يخطئ الذين يقرأون ما قاله ماكرون بعين البحث عن عمق الموقف في التعامل مع
حزب الله ورصد التحولات فيه ، بإعتباره القضية الرئيسية في الكلام ، والقضية
الرئيسية في جوهر المبادرة الفرنسية ، والقضية الرئيسية في نظرة فرنسا لموقعها
وموقفها من الصراعات الكبرى في المنطقة ، والقضية الرئيسية التي تتمحور حولها
الأزمة اللبنانية ببعدها الدولي والإقليمي ، بمعزل عن نقاش آخر ضروري ، لكنه
بالمعنى السياسي والإستراتيجي أقل اهمية من الأول ، وهو مسار المبادرة الفرنسية
وفرص نجاحها أو فرضيات تعطلها ، لجهة السعي لإستيلاد حكومة جديدة ، تتولى
الإصلاحات المتفق عليها بعيدا عن إستثارة قضايا الخلاف ، وفقا لما تم تضمينه في
كلام ماكرون في قصر الصنوبر كإطار لمبادرته ، التي توجهت نحو حزب الله أسوة
بسائر القوى والقيادات ، لصياغة نقطة تقاطع إفتراضية محلية في زمن الصراع
المفتوح على مساحة المنطقة ولبنان في قلبها.
- كي نقدم قراءة صحيحة لما قاله ماكرون يجب أن نتحرر من نبرة الكلمات ودرجة
التكرار في بعض التوصيفات السلبية ، لأنها تقنيات إقناع البيئة السياسية والنخبوية التي
ينتمي إليها المتحدث ، وتأكيد للموقع الذي ينتمي إليه المتحدث ، والأهم لأننا ندرك بأن
الأزمة اللبنانية الواقفة على شفا إنفجار أو إنهيار ، هي رغم ما يتصل بأسبابها الداخلية
الوجيهة من فساد وسياسات مالية مدمرة ، تعبير في تجلياتها الداخلية وبعديها الدولي
والإقليمي ، عن قرار أميركي شاركت فيه أوروبا وفرنسا ضمنها ، وشاركت فيه
حكومات الخليج بلا إستثناء ، محوره وقف التمويل الذي كان يضخ في شرايين
المصارف اللبنانية والنظام المالي اللبناني ، ومن خلالهما في الأسواق المالية ومن
خلالها جميعا في القطاعات الإقتصادية وهو تمويل كان مستمرا لعقدين ، رغم إدراك
أميركي وغربي وعربي لتفاقم المديونية وصولا للعجز عن السداد منذ العام 1998 ،
وتصاعدا في 2002 و2012 وتكرارا بصورة أشد تفاقما في ال2017 ، ورغم
إدراك أنه تمويل لنظام سياسي إقتصادي قائم على لعبة الفوائد المرتفعة من جهة ،
لربحية غير مشروعة للنظام المصرفي ، وبالتوازي الإنفاق القائم على المحاصصة
والفساد والتوظيف العشوائي في سياق العملية التقليدية لإعادة إنتاج النظام السياسي
نفسه ، فقد قرر الأميركيون أنهم غير معنيين بما ستؤدي إليه عملية وقف التمويل من
إنهيار ، وشعارهم فليسقط لبنان كله إذا كان هذا الطريق يمكن أن ينتهي بسقوط حزب
الله ، ووفقا لهذا الشعار سار معهم الحلفاء ، بحيث يجب أن يبقى حاضرا في ذهننا أن
القضية المحورية في الصراع حول لبنان هي القرار الأميركي بالمواجهة مع حزب الله
، وهذا لا يحتاج إلى جهد لإكتشافه فكل سياق المواقف الأميركية علني جدا في التعبير
عنه ، قبل وبعد تفجير مرفأ بيروت ، وواشنطن لا تنفك تسعى لحشد الحلفاء لخوض
هذه المواجهة ، وصولا لكلام الملك السعودي من منصة الأمم المتحدة حول توصيف
حزب الله كمصدر لأزمة لبنان وأزمات المنطقة والدعوة لأولوية نزع سلاحه .
- كي نضع الكلام الفرنسي في السياق الصحيح ، يجب أن ننطلق من معرفة الموقع الذي
يتحدث من خلاله ماكرون ، ففرنسا كانت ولا تزال العضو في حلف الأطلسي
والحليف القريب من أميركا ، والشريك في الحرب على سورية ، المتوضع فيها على
ضفة مقابلة لحزب الله ، حيث لغة السلاح تتكلم ، والضنين بأمن ومستقبل "إسرائيل" ،
حيث لغة العداء تحكم علاقته بحزب الله ، فرنسا هذه هي التي تتحدث عن محاولة لفعل
شيئ مشترك مع حزب الله ، على قاعدة عدم مغادرة الفريقين لمواقعهما ، وربط النزاع
حولها ، لصناعة تسوية تحول دون الإنهيار في لبنان ، إنطلاقا من إستكشاف مصالح
مشتركة بذلك ، حيث فرنسا تعتبر خلافا لحلفائها ومعسكرها التقليدي دوليا وإقليميا ، أن
خيار الضغط الأميركي المدعوم سعوديا وإسرائيليا ، حتى ينهار لبنان أملا بأن ينهار
حزب الله معه ، خيار أرعن ، سيرتب نتائج مؤذية للحلف الذي تقف فيه فرنسا ، فبدلا
من الفراغ يأتي المنافسون الإقليميون والدوليون ، وقبل أن تسقط بيئة حزب الله يسقط
الحلفاء ، وفي الفراغ والفوضى يتموضع الإرهاب على سواحل مقابل أوروبا وترتفع
بصورة جنونية حالة النزوح ، وينتظر الفرنسي من حزب الله أن يقرأ من موقعه
كخصم ، ومن موقع تحالفاته ومعكسره ، أن منع إنهيار لبنان مصلحة ، فهو إنقاذ
لشعب يعنيه ، وتحقيق لإستقرار سياسي وأمني يفيده ، وقطع لطريق الفوضى والفتن
التي لا يرغبها ، وفتح للباب نحو فرص لتسويات أكثر إتساعا ربما تقبل عليها المنطقة
خلال سنة قادمة ، وهذه المنطلقات التي تحركت من خلالها المبادرة الفرنسية ، هي
ترجمة سياسية لمضمون الدعوة التي أطلقها وزير مالية فرنسا برونو لومير في مؤتمر
وزراء مالية قمة العشرين مطلع العام ، عندما قال بالنص " تدعو فرنسا لفصل مساعي
تعافي لبنان عن المواجهة التي تخوضها واشنطن ضد طهران وحزب الله " .
- لنفهم أكثر وأكثر تنطلق فرنسا في مقاربة مبادرتها نحو لبنان ، من حسابات مصلحية
متمايزة عن حسابات حليفها الأميركي ، بعضها يتصل بسعي فرنسي لإستعادة موقع
تقليدي على المتوسط ورؤية فرصة لذلك من باب التمايز فيما فرنسا تخسر آخر موقعها
التقليدية في أفريقيا ، وخسرت مع الذين خسروا الحرب على سورية ، وبعضها يتصل
بصراع وتنافس حقيقيين بين فرنسا وتركيا في المتوسط ، وبعضها يتصل بالفرص
الإقتصادية التي يوفرها لبنان للشركات الفرنسية في زمن الركود ، لكن بعضها الأهم
ينطلق من موجبات القلق من البدائل التي يفتح بابها طريق الإنهيار الذي تتبناه واشنطن
، ولكن الأهم أن منهج فرنسا في المقاربة المتمايزة يتم من داخل حلفها التقليدي وليس
إعلان خروج من هذا الحلف لموقع منفصل يعرف ماكرون أنه فوق طاقة فرنسا ،
وربما يعتقد أنه في غير مصلحتها ، والفهم هنا يصبح أسهل إذا إتخذنا المقاربة
الفرنسية للملف النووي الإيراني والعلاقة مع إيران نموذجا بحثيا ، حيث لا تغيب
الإنتقادات واللغة العدائية عن الخطاب الفرنسي للسياسات الإيرانية ، وباريس لا
تتوانى عن تحميل إيران مسؤولية التوتر في المنطقة ، من اليمن إلى سورية وصولا
إلى لبنان والعراق ، وتحدثت بلسان ماكرون عن تدخلات إيرانية غير مشروعة في
الأوضاع الداخلية لدول المنطقة ، وحملت فرنسا دائما إيران مسؤولية ما تسميه المبالغة
بفرض نفوذ بقوة السلاح في المنطقة ، بمثل ما كانت تسجل إعتراضاتها على بعض
مفردات سلوك إيران في ملفها النووي ، وتعلن مشاركتها للأميركي في الدعوة لوقف
البرنامج الصاروخي لإيران ، لكن فرنسا ومعها أوروبا لا ترى في الإنسحاب من
الإتفاق النووي وفرض العقوبات وتصعيد التوتر الطريق المناسب ، لأنها تخشى تبعات
مدمرة لخيار المواجهة ، وتؤمن بأنه لن يوصل إلى مكان ، وهذا هو بالضبط ما شكل
منهج المقاربة الفرنسية للوضع في لبنان ، وبمثل ما عجزت فرنسا ومعها أوروبا عن
ترجمة تمايزها في الملف الإيراني بخطوات مستقلة عن سياسات واشنطن كالتمرد على
العقوبات وإقرار آلية مالية جدية للتعامل مع إيران من خارج منظومة العقوبات ، يمكن
طرح السؤال حول فرص نجاح فرنسا بترجمة تمايزها اللبناني ، أي إنجاح مبادرتها ،
التي تحتاج من جهة إلى تجاوب حزب الله ، ولكنها تحتاج أكثر إلى تسهيل حلفاء فرنسا
لفرص النجاح .
- تبدأ قراءة الكلام الفرنسي بعد فشل النسخة الأولى من المبادرة ، من إختبار الرهان
الفرنسي على ضوء أخضر من الحلفاء ، أولا ، ومن كيفية تناول الرئيس الفرنسي
لمواقف الحلفاء ، قبل الحديث عن تقييمه لدرجة تعاون الخصم ، أي حزب الله ، وقبل
الحديث عن النبرة التي تحدث من خلالها عن هذا الخصم ، فالبمادرة تحولت منذ
إنطلاقتها إلى ساحة صراع ، محورها من جانب حلفاء باريس الأميركيين والسعوديين
واللبنانيين ، السعي لكسب باريس إلى خيار المواجهة ، وإقناعها بأن لا جدوى من
الرهان على فرصة تسوية مع حزب الله ، ودون دخول في التفاصيل ، يكفي كلام
ماكرون عن أن العقوبات الأميركية كانت أحد أسباب تعقيد المشهد ، وأن الحلفاء
الداخليين الممثلين بالرئيس السابق للحكومة سعد الحريري ورؤساء الحكومات السابقين
حاولوا توظيف المبادرة للعبث بالتوازنات الطائفية فتسببوا بتعثرها ، بمثل ما حمل
حزب الله مسؤولية التشدد في شروط التعامل مع مبادرة الحريري لتصحيح "خطأ
اللعب بالتوازنات" ، وهذا يعني أن الذين إنتظروا أن يخرج ماكرون بإعلان الإنضمام
إلى جبهة المواجهة مع حزب الله ، وأن يحصر به مسؤولية فشل المبادرة الفرنسية
ليحمله تبعات أخذ لبنان نحو الإنهيار ، وربما حلموا بتصنيفه على لوائح الإرهاب
وإنزال نظام العقوبات الأوروبية عليه ، قد اصيبوا بالخيبة والإحباط ، فهل كان من حق
حزب الله ومناصريه إنتظار أن يخرج ماكرون ليعلن أن حزب الله كان دون الآخرين
عنصرا إيجابيا للتفاعل مع المبادرة ، أم أن مجرد تركيز ماكرون على القول بأن
الطبقة السياسية اللبنانية قد فشلت بالمجمل وأن القيادات اللبنانية بلا إستثناء خانت
تعهداتها ، وأن الحفاظ على المصالح تقدم عند القوى اللبنانية على دعم المبادرة
لإنجاحها ، يجب أن يكون كافيا ليعتبر حزب الله أنه ربح الجولة ، ولا يدع خصومه
الخاسرين يصورونه خاسرا بدلا منهم ؟
- خلال خمسة عشر يوما كانت المعركة السياسية والإعلامية ، تدور حول نقطتين ،
الأولى هي هل أن طرح المداورة في المواقع الوزارية هي مجرد ذريعة تم دسها على
المبادرة الفرنسية من نادي رؤساء الحكومات السابقين ، لإستفزاز الثنائي وخصوصا
حزب الله ، أم أنها طرح إصلاحي تضمنته المبادرة وإنقلب عليه حزب الله ، والنقطة
الثانية هي ، هل أن العقوبات الأميركية جزء من سياق الضغوط لإنجاح المبادرة
الفرنسية ام هي بإستهدافها حلفاء لحزب الله ، تعقيد لفرص المبادرة وإستهداف لها ،
وقد قال ماكرون ما يكفي لترجيح كفة الرواية التي تبناها حزب الله وحلفائه في
القضيتين .
- هل إستجابت فرنسا لدعوات الإنضمام إلى جبهة المواجهة مع حزب الله ، أم أنها
وجدت من الأعذار والتبريرات ما يكفي للقول أن الفرصة لم تسقط ولا تزال متاحة
لإنعاش التسوية على قاعدة ذات الفرضيات التي قامت عليها ، وفي قلبها ، فرضية
المصلحة المشتركة مع حزب الله بتفادي المواجهة وتفادي الإنهيار ؟
- ماكرون ليس حليفا لحزب الله بل هو في قلب معكسر الخصوم ، وهذا معنى أن حزب
الله ربح جولة الحفاظ على التفكك في هذا المعسكر الدولي والإقليمي ، وعزز إنقساماته
، ونجح بإبقاء فرنسا خارج هذا الخيار ، وماكرون لم يكن ينتظر من حزب الله منح
الإطمئنان لمبادرته بلا شروط الحذر الواجب مع خصم ، وإتهام حزب الله بهذا الحذر
ولو إستخدم من موقعه كخصم في وصفه نبرة عالية ، متوقع ولا يفاجئ ، لكنه كان
ينتظر ممن يفترضهم حلفاء ألا يقوموا بتفخيخ مبدارته ، لكنهم فعلوا ، وقال أنهم فعلوا ،
بالعقوبات الأميركية والتلاعب بالتوازنات الطائفية من خارج المبادرة ، والربح بالنقاط
بالنسبة لحزب الله يجب أن يكون كافيا ، بمعزل عن فرص نجاح المبادرة ، كما هو
الحال في الملف النووي الإيراني ، بقاء فرنسا وأوروبا على ضفة التمسك بالإتفاق
ورفض العقوبات كاف بمعزل عن قدرتهما على بلورة خطوات عملية بحجم الموقف .
- من حق حزب الله ، لا بل من واجبه أن يتناول بالتفصيل كل المنزلقات التي تورط فيها
خطاب ماكرون ، وأن يفند أي إتهام ، ويتصدى لأي لغة عدائية ولكل تشويه لمسيرته
النضالية ، ولكل توصيف غير لائق ، وأن يقدم روايته لما جرى ويكشف كل ما يثبت
تعامله بشرف الوفاء بالتعهد خلافا لإتهامات ماكرون ، لكن على حزب الله أن يفعل
ذلك وهو يضحك في سره ، لأنه ربح جولة هامة ، وأن لا يتيح لخصومه أن يضحكوا
بشماتة من أصيب بالخيبة وينتظر تعويض خسارته بأن يتصرف الرابح كخاسر فربما
يحول الخاسر خسارته إنتصارا .
2020-09-29 | عدد القراءات 3208