انطلاق مفاوضات الترسيم : من تنازل لمن ؟ نقاط على الحروف ناصر قنديل

- مع إعلان رئيس مجلس النواب نبيه بري ، التوصل الى التفاهم على اعلان اطار
للتفاوض حول ترسيم الحدود ، يحضر هذا الملف بقوة على طاولة النقاش والتقييم ،
بعيدا عن الخطابات الوظيفية ، اي المكرسة لمناقشة هادفة سلفا لأداء وظيفة لا علاقة
بمضمون البحث عن حقيقة ، والتي تهدف مرة للإيحاء بأن المفاوضات ستكون تخليا
عن خيار المقاومة أو إعترافا بكيان الإحتلال أو إنخراطا في التطبيع ، ومرة بالتنمر
على تهديدات المقاومة في حال إقدام كيان الإحتلال على شن حرب على لبنان بالرد
الموجع وصولا لتعريض الكيان لخطر الزوال ، بالتساؤل عن مبرر الترسيم طالما
المقاومة قادرة على تدمير الكيان ، فغالب هؤلاء ليسوا من دعاة تدمير الكيان ، ولا
من رافضي الإعتراف به ولا من معارضي التطبيع ، وخلفية كلامهم الغاضبة من
إعلان الإتفاق تعكس تعارض معانيه مع مراميهم الآتية مرة تحت عنوان "الحياد"
ومرة تحت عنوان نزع سلاح المقاومة ، ومرات تحت عنوان تحميل القوى التي تؤمن
بالمقاومة مسؤولية الإنهيار المالي لأنها تقف بوجه السياسات الأميركية والخليجية
المتقاطعة عند النقطة الإسرائيلية تطبيعا .
- يعلم المتنمرون على الإتفاق أن لغته ليست لغة الطرف اللبناني فيه ، بل هي لغة
الإتفاقات التي سبقته من إتفاق الهدنة إلى تفاهم نيسان والقرارات الدولية طالما أنه
موثق في الأمم المتحدة وتل ابيب وواشنطن مثلما سيوثق في بيروت ، ولو كان الإتفاق
يصب الماء في طاحونة المتنمرين ودعواتهم ويعبر عن إنتصارها ، وهي ليست بعيدة
عن دعوات واشنطن لضرب المقاومة وثقافتها ، لصفقوا له وساهموا بتمريره بدلا من
الهجوم عليه ، ولعل ما يجعل غضبهم مفهوما هو أنهم وجدوا أن الأميركي الذي
ينطرون إليه كإله جبار ، يخون ثقتهم فيرتضي التسليم بأن نزع سلاح المقاومة فوق
طاقته ، وأن المقاومة وحلفائها من القوة بما لا يمكن كسره أو تطويعه رغم الأزمات
الضخمة التي تقع فوق كتفيه والعقوبات التي تقع عليه ، وأنه لا بد من مقاربة بلغة
المصالح للبحث عن تفادي خيار المواجهة معه ، لأنها تعبر عن خيار خاسر خاسر ،
وهذا سبب سعي الطرفين لتفاديها ، وسبب بقائها بالنسبة للمقاومة ردا دفاعيا يضمن
تدمير الكيان لكنه يدمر الكثير مما يهمها سواه ، ولذلك لن يكون خيارا إبتدائيا عندها ،
ومع السعي الأميركي القائم على التسليم بمغادرة خيار المواجهة يظهر العقل الأميركي

القابلية لإستبدال المواجهة بالبحث عن خيار رابح رابح ، بشروط أقرب لمصالحه ،
وإلا ففي منطقة وسط طالما لم تنفع محاولات تليين موقف المقاومة وحلفائها من شروط
البحث عنه ، ويعرف المتنمرون على الإتفاق أنه ضمنا جواب على لاجدوى دعواتهم
الحياد ونزع السلاح والإلتحاق الأعمى بدفتر الشروط الأميركي الخليجي الذي يترجمه
التطبيع ، طالما تثبت التجربة الحسية ان بمستطاع المقاومة وحلفائها خلق موازين قوة
تفرض على الأميركي قبول التفاوض ، وتفرض شروط هذا التفاوض ، بما فيها عدم
الإعتراف بالكيان وعدم التطبيع معه ، وتفرض نيل الحقوق الإقتصادية وإنتزاعها من
بين براثنه في زمن يقدم بعض العرب نفطهم وغازهم وبلادهم وأسواقهم وأمنهم على
طبق من ذهب للإسرائيلي بعدما صار الأميركي سيد قرارهم منذ زمان ، ويراهم
هؤلاء المتنمرون مثالا يحتذى .
- صبر الأميركيون عشرة أعوام منذ بدء فتح ملف الحدود البحرية ، رسميا عام 2010
عندما بدأ الكشف عن الثروات الهائلة في البحر في المياه اللبنانية وبصورة مكثفة في
المياه الواقعة جنوبا على حدود فلسطين المحتلة حيث العين الإسرائيلية حاضرة ، لكنهم
صبروا منذ ما قبل ذلك عشرة أخرى تمتد منذ العام 2000 بعد تحرير المقاومة
لجنوب لبنان ، وإنطلاق الحملة العسكرية الأميركية على المنطقة في عهد المحافظين
الجدد خلال ولايتي الرئيس جورج بوش ، وعينهم على ثروات النفط والغاز التي
لايعرف عنها الكثير سواهم ولا عن مواطنها ، ومنها البحر المتوسط ، وفقا لتقرير
الطاقة الذي أقره الكونغرس عام 2000 ، وجاءت بعدها الحروب على المنطقة ترجمة
له ، وقد جسدت هذه التوجهات مباشرة في لبنان بصورة حربية عام 2006 بعدما
سبقها الإعلان عن أنبوب للنفط من ميناء جيهان التركي إلى ميناء عسقلان في فلسطين
المحتلة ، وما يستدعيه تنفيذه وتفرضه الحاجة لحمايته من حرب تنهي المقاومة ،
وأعقب الحرب التي فشلت عسكريا مشروع عسكرة البحر المتوسط بموجب القرار
1701 إستعدادا لخطط إستثمار النفط والغاز بعيدا عن تأثير قوة المقاومة وشروطها
السيادية ، وقبل حرب تموز 2006 تم بصورة أمنية وسياسية التمهيد لفرض السيطرة
على هذه الثروات عبر القرار 1559 عام 2004 ، وصولا لربط إغتيال الرئيس
رفيق الحريري لإشاعة الفوضى ونشر الفتن وإرباك سورية والمقاومة وإضعافهما
خدمة لهذا الهدف ، لكن صبر الأميركيين لم يحمل جديدا يتيح الرهان على المزيد من
الصبر ، فقوة المقاومة تتزايد ، ومعادلتها السياسية في لبنان تبدو غير قابلة للكسر أو
للعصر .

- بعد فشل رهانات 2004 و2005 و2006 ، جاء رهان 2010 على الحرب على
سورية وتداعياتها لبنانيا بإضعاف المقاومة إذا قيض للحرب تحقيق أهدافها ، ولكن
خاب الرهان وجاءت النتائج عسكية ، وبدت واضحة مسارات الحرب على سورية منذ
نهاية العام 2016 ومعركة حلب ، كما بدت المقاومة في ذروة صعودها السياسي مع
وصول الرئيس ميشال عون كحليف للمقاومة إلى رئاسة الجمهورية في ذات الفترة ،
فحضر الرهان الأشد قساوة الذي ترجم حضوره عام 2016 ببدء العد التنازلي
لموجودات المصرف المركزي من العملات الصعبة ، وكانت الهندسات المالية التي
نفذها تعبيرا عن هذا التراجع ، الذي زاد تفاقما عاما بعد عام تحت ضغط أميركي
مدروس هدفه خنق لبنان ماليا وتفجيره إجتماعيا ، وصولا لتسييل هذا التفجير بوجه
المقاومة وخياراتها ، وفي الطليعة فرض خط لترسيم النفط والغاز قدمه الأميركيون
تحت إسم سفيرهم فريديريك هوف منذ العام 2012 و رفضه لبنان رغم الضغوط التي
تجددت مع خلفه في المفاوضات السفير الأميركي ديفيد ساترفيلد ، ليعلن لبنان عام
2016 إشتراطه حصر الدور الأميركي بالوسيط وربط الترسيم والتفاوض غير
المباشر برعاية الأمم المتحدة ، وتتجمد المفاوضات من حينها .
- حاول الأميركيون خلال هذه السنوات ، تصعيد الضغط الإقتصادي حتى الإنفجار
الشامل ، حيث لم يخف الأميركيون رهانهم على توظيف إنتفاضة 17 تشرين
وتوجهيها بوجه المقاومة وحزب الله ، والتركيز على موقع رئيس مجلس النواب نبيه
بري ، بصفته الممسك بحنكة وحزم بملف التفاوض ، وكلام سفيرهم السابق جيفري
فيلتمان وإشاراته للتفاوض على ثروات النفط والغاز أمام الكونغرس تلاقيها الكلمات
الواضحة لمعاون وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر ، "لديكم معاناة كبيرة وتملكون
ثروات واعدة في البحر المتوسط تتنازعون عليها مع إسرائيل ، وقد قدمنا لكم تصورا
لحل النزاع فإقبلوه " ، كانت كافية لتكشف جوهر الأهداف الأميركية من الضغوط ،
وصولا لدفع لبنان نحو الإنهيار ، واللعب بتوازناته السياسية والطائفية ، وبشوارعه
المتعددة إجتماعيا وثقافيا حتى الإشتعال ، أملا بالحصول على موافقة لبنانية على خط
هوف من بوابة تفاوض مباشر بين لبنان وإسرائيل برعاية أميركية ، ولم يخف
الأميركيون خلال هذه الحملة المركزة المتعددة الجوانب سعيهم لإخراج ملف التفاوض
من يد الرئيس بري ، أملا بجعل الأماكن البديلة خواصر رخوة يمكن الضغط عليها
بشوارعها أو بالعقوبات ، فلم يحصدوا إلا الفشل .
- كان الجميع من اللاعبين الكبار يدرك أن الزمن الأميركي محكوم بسقف الإنتخابات
الرئاسية ، وأن كل الأوراق المطلوب لعبها يحب إن تستثمر قبل ذلك التاريخ ، و عندما

سلم الأميركيون مطلع تموز الماضي بالإطار اللبناني لمفاوضات الترسيم ، لا
مفاوضات مباشرة ، بل إحياء للجنة التفاوض في تفاهم نيسان مع أو بدون فرنسا ،
ورعاية الأمم المتحدة ، وحصر الدور الأميركي بالوسيط والمسهل بدلا من الراعي ،
وربط حدود البحر بنقطة برية محورية في الناقورة ، وهذا معنى التلازم البري
والبحري ، بقوا يبنتظرون فرصة جديدة لإختبار إمكانيات التعديل مرة أخيرة على حافة
النهاية ، والإتفاق في جيبهم جاهز للإعلان ، لتطل برأسها ثلاثية تفجير المرفأ وحملة
التطبيع الخليجية والمبادرة الفرنسية نحو لبنان ، والثلاثية مترابطة لدرجة تطرح أسئلة
كبرى حول تلازمها ومرجعيتها الأميركية ، وتحرك الفرنسيون بالتنسيق مع
الأميركيين وتحت نظرهم ، كان الناظر الأميركي ديفيد شينكر وزميله ديفيد هيل
يزوران بيروت ، ويجسان نبض الرئيس بري ومن خلاله المقاومة ، حول شروط
الترسيم ، وفقا لمعادلة ، أن يحصل الأميركيون على ما يريدون في ملف الترسيم
فيحصل بري ومن خلفه حزب الله على ما يريدون في الملف الحكومي ، وعند التمسك
بالشروط جاءت العقوبات ، وعندما سقطت الفرصة ولم ينفع شيئ في تغيير المواقف
قرر الأميركيون الإفراج عن التفاهم ، ليتم الإعلان عنه ، متقبلين لمعادلة رابح رابح ،
بعدما فشلت كل محاولات الفرض وقوبلت بالرفض ، فيربح الأميركيون ومن خلفهم
الإسرائيليون ما يستثمرون من خلاله النفط والغاز والسياسة والتسويق الرئاسي
والترويج لإنجازات تحاكي إنجازاتهم في الخليج ، ويربح لبنان ومقاومته سيادة غير
منقوصة ، وثروات كاملة ، وإحباطا لضغوط تحت عناوين الحياد ونزع السلاح .
- الجولات القادمة لن تكون سهلة ، لكنها تحت سقف توازنات صنعتها مفاوضات الإطار
، وستكشف الأيام يوما أن إدارة الرئيس بري لملف التفاوض كانت تتمة مديدة
لمفاوضات حرب تموز ، وانها خلافا لكل ما يقوله المزايدون والمتنمرون ، والذين
غالبا ما كانت مواقفهم تعبيرا عن صدى للضغوط الأميركية ، وسيظهر كيف أن إدارة
بري عبرت عن وطنية لبنانية صافية وصلبة وعن إستعداد للتضحية ترجمه تحمل
العقوبات والإستعداد لتحمل التهديد بأكثر منها ، لتكتب صفحة إنجاز وطني لبناني ،
مؤسف أن لا يتلقفه اللبنانيون موحدين ، ومؤسف أكثر أن يضعوه على خطوط تماس
مراهقات عصبياتهم المريضة ، في لحظة وطنية تستحق الترفع عن لغة التفاهة ولحقد
والعبث .
- مبروك

2020-10-02 | عدد القراءات 16145