سقوط الإمبراطورية الأميركية والبحث عن مخلص ! نقاط على الحروف ناصر قنديل
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
في الدولة الإمبراطورية الأعظم في العالم التي تمثلها أميركا إنتخابات ، هي واحدة من عشرات الإنتخابات المماثلة التي شهدتها وقدمت خلالها نموذجا للإنتقال السلمي للسلطة ، بصورة جعلت منها النموذج الأعرق للديمقراطية في العالم ، وفي الدولة الإمبراطورية العظمى ، والنموذج الديمقراطي الأعرق ، يتفق المرشحان المتنافسان على شيئ واحد هو أن الإنتخابات هذه المرة قد لا تشهد إنتقالا سلميا للسلطة ، فالرئيس الحالي دونالد ترامب هو أول رئيس أميركي يهدد بعدم التسليم بنتائج الإنتخابات وعدم تسليم السلطة ، والمرشح الديمقراطي جو بايدن يحذر من أعمال شغب وفوضى ، ومحللون وسياسيون وخبراء كثر من النخب الوازنة في الوسطين السياسي والإعلامي يتحدثون علنا عن خطر حرب اهلية تنتظر أميركا ، والتقارير المجمع عليها من مناصري الفريقين المتنافسين تتحدث عن حمى تسلح وعن تمرد ولايات على الدولة الفدرالية إذا فاز المرشح المنافس للمرشح الذي يتملك غالبية كاسحة في هذه الولايات ، والحديث يدور هنا عن أكثر من عشر ولايات تدين بولائها للديمقراطين بصورة كاسحة ومثلها تدين بالولاء للجمهوريين بصورة كاسحة .
للمرة الأولى في التاريخ الأميركي لا تملك السياسة الأميركية في الحزبين فرصة لحل أزمتها الداخلية بالتوجه نحو الخارج ، ولا يملك كل من الحزبين حلولا سحرية لأزمات الداخل ، والتغيير الجوهري الذي يراهن عليه كل من المرشحين يعني مساسا بثوابت قيمية وجودية للفريق الآخر ، بصورة تجعل خسارته الإنتخابات أكبر من خسارة مؤقتة بما تعنيه من فتح الطريق لمجتمع من نوع آخر ، وقيم حاكمة أخرى ، ما يضع وحدة الدولة والمجتمع على المحك ، وفي عمق المأزق الأميركي يشترك الحزبان الواقفان وراء المرشحين في بلوغ الطريق المسدود في خوض الحروب ، بعد ولايتين لجورج بوش أشد الرؤساء الجمهوريين رهانا على الحرب الخشنة ، ولايتين لباراك أوباما أشد الرؤساء الديمقراطيين رهانا على الحرب الناعمة ، والحصيلة فشل مكثف في الولايات الرئاسية الأربعة ، وصولا للحرب التي شهدتها الولاية الخامسة التي كان عنوانها دونالد ترامب ، وعنوانها العقوبات وحروب الحصار المالي ، التي أضافت للفشل مزيدا من الفشل ، لتجد أميركا نفسها أمام طريق مسدود بين حرب تعجز عن خوضها وتسوية لا تجرؤ على الخوض بها .
أمام الأميركيين أميركيتين مختلفتين جذريا مع فوز كل من المرشحين المتنافسين ، واحدة تلغي الأخرى ، داخليا وخارجيا ، في مشاريع التنمية الإقتصادية ، والتوجهات الضريبية والبيئية ، وفرص العمل والأجور ، والتأمينات الصحية والتعامل مع كورونا ، والعلاقة بين الأعراق والإطار القانوني للمواطنة الأميركية ، فأميركا ترامب بيضاء للأثرياء لا تعترف بضوابط البيئة والصحة ، تسود فيها شركات النفط والسلاح والعقارات وتحصر صناعة السياسة بها ، وهي أميركا التي تقع في صلب مخاطر المواجهات غير المعروفة النتائج ، مع سلبيات عدائية تطال كل العالم من روسيا والصين وصولا الى اوروبا مرورا بإيران سورية وكوريا الشمالية ، بينما اميركا بايدن هي اميركا مختلفة جذريا ، حيث لم يعد ممكنا الكلام عن رفض العنصرية بالنسبة للسود واللاتينيين دون تغييرات تشريعية جذرية ، ولم يعد ممكنا للطبقات الوسطى وما دونها قبول الإصلاح الإجتماعي والطبي دون نظام ضرائبي جديد ، ولا يمكن الحفاظ على دعم الجماعات البيئية دون إجراءات حاسمة ستصيب شركات النفط والسلاح في الصميم ، وتنظم القطاع العقاري بمعايير يرفضها اصحاب الرأسمال العقاري ، وخارجيا هي أميركا العائدة الى محاولة ترميم الجسور التي نسفها ترامب ، على قاعدة الإختلاف والندية ، لكن ايضا على قاعدة التعاون والبحث عن الحلول السياسية للنزاعات ، في ملف اتفاقية المناخ وملف منظمة الصحة العالمية والملف النووي الإيراني ، وملف التفاوض على حل يستند لصيغة الدولتين للقضية الفلسطينية .
في أميركا يكثر أنصار المرشحين من إستعمال صفة المخلص في توصيف مشروعه وترشيحه ، فيما خيار ترامب يعني إصابة وجودية لنصف الأميركيين ، وخيار بايدن يعني إصابة وجوديا للنصف الآخر ، والأهم من إسم الرابح في الإنتخابات هو أن نهاية الإنتخابات تعني بداية مسار مصيري خطير للإمبراطورية التي تترنح وتفقد توازنها ، ليست الحرب الأهلية مجرد شائعة فيه ، بعد قرنين من الصعود المستقر ، يصير الشحوب والتراجع خطا بيانيا مستداما ، والقفزة الى المجهول قاب ساعات أو أكثر ، ويصير تفادي الساعة السوداء للسقوط المدوي للامبراطورية العظمى بذاته أنجاز غير قابل للتحقق ألا بفوز كاسح لأحد المرشحين ، حيث يبدو بايدن هو الأوفر حظا لتحقيقه ، حيث فوزه الضئيل يشكل صاعق التفجير الداخلي للإمبراطورية ، وفوزه الكاسح ربما يكون بوليصة تأمينها من التصدع ، وربما يكون هذا حافزا لتصويت غير متوقع لصالحه لتفادي الأسوأ ، بحيث يبدو بايدن مشروع مخلص بنظر دعاة وحدة "الأمة الأميركية" من الحزبين لرد الإعتبار للسياسة ولو من موقع أضعف .