- بعيدا عن محاولات التأقلم التي ينشغل بها المحللون والمتابعون مع الوقائع التي حملتها
الإنتخابات الرئاسية الأميركية ، والبحث عن أسباب لتفسير خطأ التوقعات أو ضعفها
وعجزها عن ملاقاة الأرقام والمواقف ، يفتح المشهد الإنتخابي الأميركي الباب لبحث
من نوع مختلف لا يزال الكثير من المحللين والمتابعين يرفض تصديقها ، والتعاطي
معها بالجدية اللازمة ، وهي بحجم يطال البحث عن المستقبل الأميركي ، كنظام
سياسي وإقتصادي ، كمجتمع موحد ، كنظام ديمقراطي قادر على امتلاك آليات
لمواجهة الأزمات ، ومن خلال ذلك البحث بأسئلة أكثر عمقا من عيار مستقبل النظام
الفدرالي وخطر التفكك ، ومستقبل التداول السلمي للسلطة والتعايش السلمي بين
المكونات المختلفة عرقيا أو طبقيا ، وخطر الفوضى الأمنية ووصلا لفرضيات الحرب
الأهلية او سقوط الإنتظام العام كحد أدنى .
- في مقالة قبل أسبوع بعنوان "السباق على المنخار" أوردنا توقعاتنا بالأرقام لما ستشهده
الإنتخابات من إستعصاء ، رغم الموجة التي كانت تسود التحليلات وتتحدث عن فوز
سلس ومحتم لصالح المرشح الديمقراطي جو بايدن ، وما تحمله الأرقام اليوم تأكيد لما
توقعناه بالتفاصيل ، وفيما يتم التركيز على مأزق عنوانه شخصية ترامب ، وتهوره
وتفلته من الضوابط ، تظهر الوقائع التي تتدفق مع الوقائع الإنتخابية أن المأزق بوجهين
، وجه جمهوري ووجه ديمقراطي ، ليظهر مأزق المجتمع والنظام ومن خلالهما الكيان
، فالنموذج الأميركي يبلغ سقف القدرة على إحتواء الأزمات وتقديم الأفضل ، وليس
أمرا عرضيا أن لا تسستطيع توحيد الجمهوريين الذين يشكلون عصب العرق الأبيض
والطبقة الأغنى التي تمثل الكريما في جماعة الأعمال بتنوع مجالاتهم ، وفوق هؤلاء
شخصيات ورموز اليمين الديني وفلاسفته وكتابه ومثقفيه وخطبائه ، إلا شخصية رجل
الأعمال الفوضوي والنرجسي دونالد ترامب الآتي من خارج الحزب ، حزب يرتضي
قيادة لقيطة لشخصية تفتقد لكل مواصفات رجل الدولة ، وتشبه رجالات المافيا
والعصابات ، بخصال تضعها خارج السياق الطبيعي للممارسة السياسية التقليدية
والقيمية ، لكن المفارقة ان هذه الخصال الهابطة لشخصية ترامب هي مصدر جاذبيتها
وقدرتها على تشكيل القاطرة اللازمة لتوحيد كل التباينات التي أصابت البنية التقليدية
للجمهوريين لدرجة تقديمه كبطل وطني ، كما أنه ليس بالأمر العرضي أن لا يستطيع
الحزب الديمقراطي أن ينهض بالمعركة الرئاسية كحزب نخبوي للمثقفين والمحامين
والكتاب والنواب ، وحزب للطبقة الوسطى ، وحاضنة للمهمشين من النساء والشباب
واصحاب البشرة الملونة ، كحزب للنهوض بمفهوم الدولة المدنية ، إلا تحت شعار منع
وصول ترامب للرئاسة ولبس الكمامة ، والا وراء شخصية باهتة مشكوك بقدراتها
العقلية ، وفاقدة لكل كاريزما وجاذبية ، وتنخر حضورها الشيخوخة والهرم حد الخرف
، فهذا الذي يجري على ضفتي الحزبين ليس عابرا ولا عرضيا ، بقدر ما هو تعبير
عن المأزق ، وبلوغ النموذج للسقف ، والعجز عن توليد الجديد ، وإنسداد طريق
التطور من داخل النظام سلميا ، كما يفترض أنها المهمة التي تناط بالديمقراطية ، التي
تتباهى بها أميركا وتقدم ذاتها كنموذج لهذه الديمقراطية القادرة على ضمان التداول
السلمي للسلطة والتعايش السلمي بين المكونات .
- في مقال قبل يومين تحدثنا عن سيناريوهات الفوضى والإنقسام العامودي وتراجع
الإستقرار والتماسك والنزاع القضائي المفتوح ، تحت عنوان سقوط الإمبراطورية
الأميركية ، وكانت الإشارة واضحة للمعادلة التي تحكم المشهد الأميركي الحالي ،
وهي معادلة فقدان أميركا لمصادر الوفرة والقوة التي كانت تشكل الأساس لسيادة
مؤسسات الديمقراطية الأميركية ، ولسلاسة ممارسة الحكم ، والأمر اليوم ليس في
خيار الفوضى والحرب الأهلية كمعبر حتمي من المأزق الرئاسي ، فقد تتخطى النخبة
القيادية في الحزبين مخاطر الإنفلات والخروج عن السيطرة ، ولكنها لن تنجح بإنتاج
مشروع إستقرار ، ولن تنجح بمعالجة الإنقسامات العمودية التي إنطلقت من عقالها
لنقص الموارد وتراجع هيبة القوة ، ولا يعيدها للسيطرة الا مزيد من الموارد والمهابة ،
وهذا لم يعد بيد النخبة التي تتخبط منذ عام 2000 لصناعة مشروع هيمنة على الموارد
العالمية وإنتاج مهابة لسياسة الإستتباع ، والمشروع يصطدم بعقبات تزداد قوة وصلابة
وإتساعا ، والمثلث الروسي الصيني الإيراني يزداد قوة وتماسكا وحضورا ، وبالتوازي
الحلف الذي قادت عبره أميركا مشروعها يزداد تفككا ، ولم يتبق منه إلا شركاء
التطبيع الخليجي الإسرائيلي ، بعد المسافات والهوامش التي رسمتها أوروبا وتركيا كل
من موقعه عن الإنضباط الكلي بالسياسات الأميركية .
- ما تشهده أميركا ليس إستعصاء إنتخابيا مجردا عن عمق مأزق الكيان والهوية
والمجتمع والدولة ، بل هو رأس جبل الجليد لهذا المأزق ، فثمة إمبراطورية هرمت
وهي تترنح وتتفكك ، وسقوط الأجسام الثقيلة ، يشبه سقوط التايتانيك ، او دخول الفيل
الى معرض للخزف ، فالكثير من الحطام والصخب آت في الطريق ، والذين ربطوا
مصيرهم بالقاطرة الأميركية ، وساء برهان عودة ترامب أو مجيئ بايدن عليهم أن
يعيداو حساباتهم ويستعدوا لزمن عنوانه الأكبر ، أميركا مقفلة حتى إشعار آخر بداعي
اإنشغال بالذات والصيانة والترميم ، والخروج من المأزق الرئاسي لن يعني على
الإطلاق خروجا من المأزق الأصلي للكيان والدولة والمجتمع ، وأول الذين عليهم
مواجهة ساعة الحقيقة هم أطراف الثلاثي الخليجي التركي الإسرائيلي .
2020-11-05 | عدد القراءات 3198