لبنان بلد الفرص الضائعة نقاط على الحروف ناصر قنديل
أضاع لبنان الكثير من الفرص بإدخالها في زواريب موحلة للسياسات الطائفية والحسابات الصغيرة ، حتى بات بلد الفرص الضائعة ، ومن يستعيد اللحظات التاريخية التي حملت في بداياتها وعودا وردية بفرض تاريخية لتغيير مسار الحياة اللبنانية سيجد الكثير منها ، فمنذ اتفاق الطائف تضيع الفرصة تلو الأخرى ، وربما تكون أهم الفرص الضائعة هي ما مثلته انتصارات المقاومة بتحرير الجنوب عام 2000 والمعادلات التي أنتجتها ، والتي منحت لبنان فرصة التحول الى رقم عربي ودولي صعب ، وفرصة التوحد حول مصادر قوة سيادية تتيح له حماية ثرواته وإستقلاله ، وإحاطة هذه القوة بعناصر اضافية للقوة الوطنية التي تتوحد حولها ، والانصراف من نقطة انطلاق لبنانية موحدة نحو بناء دولة قادرة على نيل ثقة الداخل والخارج بأهليتها ، لكن بدلا من ذلك انقسم اللبنانيون بين من وجد في انتصار المقاومة سببا للخوف الطائفي ، بعدما نظر للمقاومة بعيون طائفية ، فدخل مرحلة الإستنفار الطائفي بوجهها وأخذ لبنان بذلك نحو زواريب المخاطر والتشتت والضياع ، وهناك من وجد من موقع التزامه بتموضع اللبنانيين على ضفاف المعسكرات الخارجية الفرصة في تخديم حليفه الخارجي بالنظر الى انتصار المقاومة كفرصة لمطالبتها بتسليم سلاحها ، فاتحا معها ذات المعركة التي كان يخشى أعداؤها في الخارج فتح بابها مقدما الأرضية الداخلية للمعركة الخارجية التي تستهدف هذه المقاومة ، وهكذا ضاعت الفرصة .
مع وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية تولدت فرصة مهمة للنهوض بدولة ومؤسسات وخوض غمار اصلاح سياسي واقتصادي واطلاق مسار جدي لمكافحة الفساد ، في مناخ من الإستقرار السياسي الذي تولد مع إنضمام كتل سياسية متعددة الهوية والولاء داخليا وخارجيا الى موقع الشراكة في التسويات والتفاهمات التي واكبت هذه الفرصة ، بعدما التقى حول العهد الجديد تحالفه مع حزب الله من جهة والتسوية الرئاسية مع الرئيس سعد الحريري وتفاهمه مع القوات اللبنانية من جهة مقابلة ، لكن الفرصة تحولت في النصف الأول من العهد الى استنساخ لنمط الحكم التقليدي القائم على المحاصصة والبعيد عن الإصلاح ، وطغت الهوية الطائفية على مطالب التيار الوطني الحر وسلوك العهد ، سواء في مقاربة قانون الإنتخابات النيابية ، ووضع معيار لصحة وسلامة التمثيل ينطلق من درجة قيام المسيحيين بانتخاب نوابهم ، أو في مقاربة ملفات الوظائف العامة في الفئة الأولى وما دونها ، بإخضاعها للسعي لتقديم التيار والعهد كمدافع أول عن ما يسميه ب"حقوق المسيحيين" ، وما رافق ذلك في تعيينات الفئة الأولى من محاصصات وما عقد تعيينات الفائزين بمباريات مجلس الخدمة المدنية تحت شعار السعي للتوازن الطائفي ، وكان من الصعب حد الى الاستحالة الجمع بين التمسك بموقع مسيحي أول وموقع وطني أول في مقاربة قضايا الإصلاح في بلد محكوم بنظام طائفي يتكفل بتوليد الإنقسامات لا التفاهمات ، وجاء النصف الثاني مليئا بالأزمات من الإنهيار المالي الى كورونا وصولا الى انفجار مرفأ بيروت ، وما بينها من تفجير للتفاهمات التي ولدت مع بداية العهد ، وطغى التناحر والتنابذ وانضمت قوى جديدة الى التشتت السياسي ، وبدا بوضوح ان الفرصة تتلاشى تدريجيا وان سقف الطموح صار وضع حد للخسائر ومنع وقوع الأسوأ ، وليس تحقيق المزيد من الطموحات .
جاءت انتفاضة 17 تشرين الول 2019 فرصة جديدة لإنعاش الأمل بنهوض مسار تغييري في لبنان مع مشهد عشرات الآلاف يهتفون بلبنان جديد في شوارع العاصمة ، حيث تلاقى اللبنانيون من كل الطوائف والمناطق احتجاجا على نظام المحاصصةو الفساد ، وطلبا لتغيير جذري يضمن للبنانيين فرص عيش أفضل في دولة تقوم على الحقوق والتساوي امام القانون ، لكن سرعان ما بدأ الحراك الشعبي يتآكل لصالح شعارات سياسية ينقسم اللبنانيون حولها كمصير سلاح المقاومة الذي نجح الخارج بجعله عنوان مقايضة تمويله للكثير من الجماعات الفاعلة في الحراك بجعله شعارا لها كسقف لهذا الحراك ، وبالمثل توزع المشاركون مجددا على مرجعيات الطوائف وتوزعت ريحهم ، وصارت دعوات الإصلاح ومكافحة الفساد مشروطة ، ويوما بعد يوم تلاشى الأمل وتراجعت الفرصة وتحولت الإنتفاضة الى واحدة من عناوين الضياع اللبناني ، ومصادر الإستغلال السياسي والتوظيف الخارجي ، وصار الأمل الذي بدا قريبا في الأيام الأولى للإنتفاضة يبدو أبعد فأبعد .
مع تسمية الدكتور حسان دياب كرئيس للحكومة التي ولدت في مناخ الإنتفاضة ، ولدت فرصة جديدة ، فللمرة الأولى هناك رئيس حكومة من خارج النادي التقليدي ، ومن خارج الولاءات الطائفية والإقليمية ، ومن حظ لبنان أن يكون هذا الرئيس مؤمنا بلبنان مدني وبنظام للمساءلة والمحاسبة وبإصلاح جذري للنظامين السياسي والإقتصادي ، معتبرا انه جاء لتنفيذ وصايا الإنتفاضة ، لكن الرئيس الذي جاء بتسمية وثقة الأغلبية النيابية ، كجزء مما سمي بالطبقة السياسية ، لم يحصل على دعم الإنتفاضة وقواها ولا حصل على دعم شركائه في الحكومة ، ومرت الأيام الحكومية على إيقاع هذا التناوب بين مساع إصلاحية منقوصة ، ومشاريع حكم مبتورة ، فترهلت صورة الحكومة ، وذبلت الآمال بتغيير منشود ، وضاعات الفرصة .
بالرغم من الطابع المأسوي لجريمة تفجير مرفأ بيروت شكل التحقيق القضائي فرصة لإنتزاع القضاء المبادرة لقيادة المسعى الإصلاحي ، وبنى اللبنانيون الآمال على أن يدق التحقيق أبواب المحرمات السياسية ويقدم نموذجا عن الشجاعة والإقدام والحسم والوضوح والترفع ، فيحرج الجميع ويلزمهم بالخضوع ، وينجح بجمع الشجاعة والحكمة بخلق واقع جديد ، وبدلا من أن يحدث ذلك حث العكس ، فطريقة التصرف القضائي بنتائجها بغض النظر عن النوايا ، حولت حسان دياب من الدخيل غير المرغوب به في نادي رؤساء الحكومات السابقين ، الى عضو أصيل يحظى بالتكريم من مؤسسي النادي ، وبدلا من ان يكون مغردا خارج سرب الطائفة هجمت الطائفة عليه تحميه بعدما كانت قد نبذته وهجمت عليه كدخيل على نادي الأصلاء ، وبغض النظر عن النقاش القضائي والدستوري والسياسي دخل التحقيق قي مسار انحداري يصعب انقاذه منه ، فاقدا امكانية تمثيل عنوان نهوض لمشروع الدولة ، وبدلا من ان يكون التحقيق مدخلا انقاذيا للدولة صار المطلوب انقاذ التحقيق .