ناصر قندیل
- لن ینتھي النقاش حول أنیس الذي طوى مرحلة من المسیرة ، وسیبقى حاضرا أبعد من
الذكریات الكثیرة ، والأسرار الدفینة ، فالروح التي تقاتل تحضر في ولا تغادر وروح
أنیس النقاش واحدة من ھذه الأرواح النادرة في الصفاء والنقاء والتوثب والشجاعة
والمبادرة واللطف والحضور ، في مطلع السبعینات ونحن نتلمس مكانتنا في ساحات
النضال كان أنیس القدوة والمثال الذي نتبع ظلھ ونبحث عن حضوره ، دون أن نعرفھ
عن قرب ، ونحن ھنا ھي جیل شبابي كامل كان یتأھب لحمل السلاح نحو فلسطین ،
وعندما شاھدناه في عملیة وزراء أوبك صفقنا لھذه البصمة التي شرفت لبنان واللبنانیین
بحضور عرش كبیر لفلسطین ، وكان أنیس العریس ، وعندما إلتقینا في بنت جبیل
ورشاف عام 1977 ولاحقا في مقاومة إحتلال 1978 والصواریخ الى خلف الحدود
، لم نستطع جمع الرموز بین محطات محورھا أنیس النقاش ، وكأن الذي عرفناه في
كل حلقة ھو شخص مختلف ، لكنھ كان أنیس ، الذي تیقنا من جمعھ لھذه الحلقات في
سلسلة حریتھ وھو سجین في باریس بعد محاولتھ إعلان بصمتھ في عقاب شعوب
المنطقة لنظام الشاه ورموزه ، وإشھار الموقف الى صف الثورة الإسلامیة التي رفعت
علم فلسطین في طھران ، لنعرف لاحقا أن أنیس كان من المجموعة الصغیرة التي
خططت لذلك مع رفاقھ الذین صاروا لاحقا قادة الحرس الثوري ، الذي أتلقیتھم في
طھران عام 1980 ، وھم یتحدثون عن أنیس وحریتھ كإلتزام لا حیاد عنھ في مستقبل
أي علاقات فرنسیة إیرانیة .
- من تلك اللحظة كان الشھید القائد عماد مغنیة حاضرا ، حتى لحظة حریة أنیس
بمفاوضات أدارھا العماد ، وھو یدیر ما سیغدو أعظم تجارب المقاومة في المنطقة ،
والتي سیغدو أنیس العائد أحد أبرز مفكریھا ، بعقلھ الحر وفكره اللامع وثقافتھ
الموسوعیة وتھذیبھ ورفعة أخلاقھ ، وتصدیھ لكل صعب لاینال ، وتحدیھ لیقدم القدوة
والمثال ، فھو حتى لو لم یكن منذ ھذه اللحظة بین یحملون السلاح ، لا یترك للنضال
ساح ، ومنذ ھذه اللحظة بدأت صداقتنا القریبة ، وصار التواصل بلا إنقطاع ، وكرم
الأنیس في اللقاء عندما یكون في طھران إنشغال وإھتمام بكل قادم من رفاق الدرب من
بیروت ، مرة یكون العماد مضیفا ومرة یكون الأنیس ، حتى رحل العماد ، فحاول ما
إستطاع ألا یشعر أحدا أن شیئا قد تغیر ، وھو في كل المعارك في أول الصفوف ، وفيكل الإحتفالات في آخرھا ، تخجلھ الأضواء ویكره المناصب والمكاسب ولا یھز
عضده الإغواء ، یبحث عن المقاتلین ویأنس جلساتھم وسماعھم في قلب كل معركة ،
وینصت بتقیماتھم بعدھا ، حتى حضر القاسم فصار رفیقا وأنیسا ، وربما كان للحرب
على سوریة فضل إتخاذھا مسكنا ومقرا لأنیس ، لیتاح لھما تواتر اللقاء وبساطتھ ،
یعزي أحدھما الآخر بغیاب العماد ویحلولان ملأ الفراغ ، حتى جاء رحیل القاسم
جرحھ البلیغ وھو یبتسم بإنتظار اللحاق .
- كل من یفكر ویبحث عن ما ھو أبعد من سطح الأحداث ، ولا یھدأ بحثا عن حل لقضیة
في قلب الحرب ، كان لابد أن یھرع الى انیس عارضا ما التمع في عقلھ ، ویقدح معھ
زناد الفكر لیستكشفا معا تحلیقا لا یتوقف في فضاءات الفلسفة والوجود والإستراتیجیات
والتكتیكات حتى تتبلور الفكرة مشروعا ، وحین تصیر صدیقا لأنیس لن یفوتك منھ
سعي لنقاش حول فكرة جدیدة تشغل بالھ ویسعى لإنضاجھا ، فقد أصبحت محظوظا
بأنیس فكر ورفیق درب ، قد یتصل آخر اللیل او في الصباح الباكر لیقول بأدب ولطف
، ألدیك وقت للتحدث قلیلا ، وتجیب بالطبع فیبدأ تحلیقھ وتدفقھ بلا توقف ، وتلتقیان
وتقرران كتابة التصورات والسعي لإیصالھا ، وأنیس صاحب مشروع التشبیك بین
لبنان وسوریة والعراق وإیران وصولا الى تركیا بعد انضباطھا بمعاییر الخروج من
العدوان على سوریة ، لبناء سوق مشتركة ، وحل الأزمة الكردیة ، وتشكیل محور
إقتدار إقلیمي لا یمكن كسره ، یشكل ظھیرا للمقاومة التي لم یشك یوما بأنھا ذاھبة بكل
فخر وعز وقوة الى فلسطین .
- قبل حرب تموز 2006 بأیام وفي ظل توقعات بحرب قادمة ، تشكلت مجموعة عمل
إسراتیجیة وإعلامیة لدعم المقاومة في أي حرب ، وكان أنیس في الطلیعة ، وكل
صباح من صباحات أیام الحرب كان دفتره ملیئا بالملاحظات ، وصوتھ متدفقا في
الحضور ، وكان أستاذا في التواضع والأخلاق ، ومصنعا للأفكار ، ومتطوعا لأبسط
المھام ، مثبتا انھ لایتعب ولا یستصغر عملا ، وھمھ الأول والأخیر أن مسیرة شكلت
ھاجسھ وقضیة حیاتھ تتقدم ، وخلال الحرب على سوریة كنا نتقاسم الحضور والمواقع
والأدوار ونتبادل الآراء والتحلیلات ، ونشغل محركات عقولنا بعیدا عن العلب التقلیدیة
بحثا عن جدید ، ویفرح أحدنا لكل إلتماعة فكر جدیدة ، وكل إستنتاج یخرج عن
المألوف ، ونضحك كثیرا عندما نسمع أوصاف من یقفون في المعسكر الآخر لنا ،
یقول ، اللي بیعرف بیعرف واللي ما بیعرف بیقول كف عدس ، دعھم یا صدیقي
یتلھون في تحلیلنا ولننصرف نحن لتحلیل الحرب وكیف یصنع النصر في عام 2013 وفي احتفال لتكریم المتسابقین في احدى دورات شبكة توب نیوز التي
طالقتھا في الحرب ، دعوت أنیس مكرما ومتحدثا ، فكان حضوره المتواضع والمتدفق
آسرا ، لا یزال الذین حضروا یستذكرونھ وسیتذكرونھ أكثر الیوم وھم یعلمون أنھم
صافحوا ید قائد ، لم تلوثھا عمولة ولا عمالة ، وید مفكر تعرف رائحة الحبر في
جیناتھا ورائحة البارود بین جنباتھا ، رحم الله القائد المفكر أنیس النقاش .
- ستبقى الأنیس ، أنیس فلسطین وسوریة والیمن والعراق وإیران والبحرین ولبنان ،
وأنیس بیروت التي أحببت ، وأنیس الشھداء ، ولم ینتھ ولن ینتھي النقاش
2021-02-23 | عدد القراءات 2470