للمتفائلین والمتشائمین معا ...لا تتسرعوا !
نقاط على الحروف
ناصر قندیل
- یلتقي المتفائلون بمسار شعبي تغییري ، والمتشائمون من ذھاب لبنان الى الإنھیار
الشامل على صورة فوضى أمنیة وأمن ذاتي وإحتكاكات مناطقیة طائفیة ، على إعتبار
اللحظة التي بلغھا الوضع النقدي والمالي وتاثیراتھما الإجتماعیة مرحلة الغلیان وتجاوز
الخطوط الحمراء ، بعدما بلغت أسعار صرف الدولار عشرة أضعاف ما كانت علیھ
طوال عقود ، فسعر ال15000 لیرة للدولار لیس نھایة بل ھو تعبیر عن عدم وجود
سقف لإرتفاع سعر الصرف ، وإنطلاقا من تأثیر سعر الصرف على كل وجوه الإنفاق
الیومي للبنانیین ، یشكل إرتفاع سعر الصرف المؤشر الرئیسي لإستخلاص الإتجاه
الإنھیاري لقدرة اللبنانیین على العیش ، وفیما یتوقع المتفائلون أن ینجم عن ذلك ثورة
شعبیة تفرض إیقاعھا على الحیاة السیاسیة ، یخشى المتشائمون أن یؤدي الإنھیار إلى
فوضى خطیرة تھدد بسقوط الكیان كما قال وزیر خارجیة فرنسا قبل یومین .
- یستخدم الفرقان توصیفا متسرعا للمشھد المالي والنقدي ، فیقولون في مشھد غیر
مسبوق ، لكن الذین عاشوا النسخة الأولى من الإنھیار النقدي التي إستمرت لسبع
سنوات ، بین عامي 1985 و1992 ، سجل خلالھا سعر الدولار إرتفاعا بلغ خمسمئة
ضعف ، منطلقا من سعر 6 لیرات للدولار إلى سعر ال3000 لیرة للدولار ، في
مسیرة تصاعدیة منتظمة دون توقف ، یستطیعون الجزم بقوة الوقائع أن ذلك الإنھیار
الذي رافقتھ قمة الإنقسام اللبناني بین المناطق ووجود حكومتین ، وخرب أھلیة
وخطوط تماس ، لم یدفع لا للثورة لا ولتصاعد الحرب ، ولا للفوضى في مناطق النفوذ
التي كانت تدیرھا الحكومتان أو المیلیشیات ، وأن اللبنانیین تأقلموا مع ھذه الإرتفاعات
رغم عدم وجود دعم لأسعار المحروقات على الأقل ، التي تشكل وحدھا مصدرا للتأثیر
على أغلب الأكلاف الإستھلاكیة للبنانیین .
- مع إختلاف الظروف عن تلك المرحلة لا تنتفي فكرة التأقلم بل تتغیر شروطھا ، فالذي
یجري منذ عامین مع الإرتفاع في سعر الصرف ، ھو أن فاتورة الإستیراد آخذة في
التقلص ، وقد بلغت نصف ما كانت علیھ خلال سنوات ماضیة ، فبلغت ال10 ملیارات
دولار تقریبا ، بعدما كانت تحلق فوق العشرین ملیارا ، وتحسنت فاتورة التصدیر
بنسبة %20 وھي آخذة في التحسن بفعل القدرة التنافسیة التي بات یملكھا الإنتاج
المحلي في مواجھة البضائع المستوردة ، ما یظھر بتوسع قطاعات قائمة وعودة الحیاةلقطاعات كانت قد ماتت ، و بالتوازي حافظت التحویلات الإغترابیة على مستواھا عند
السبعة ملیارات دولار سنویا ، وھي مرشحة للتزاید مع عاملین جدیدین ، الأول أن
المغترب الذي كان الفائض الذي یستطیع تجمیعھ للتحویل لا یزید عن ئمة أو مئتي
دولار فیحجم عن تحویلھ ، بات یدرك الیوم أنھ كاف لیقوم بأود عائلة فلا یتردد بإرسالھ
، وھذا حال مئات آلاف المغتربین ، وھم غیر المغتربین الذین كانوا یحولون أموالھم
لإیداعھا في النظام المصرفي وذاعت ودائعھم ، فھذه اتلحویلات تدخل السوق وفرا
لأنھا مرسلة للإستھلاك ومن تصلھم ینتظرونھا لإنفاقھا ، والعامل الثاني ھو الھجرة
المتصاعدة التي تسجلھا كفاءات مھنیة وید عاملة لبنانیة تحت ضغط تراجع فرص
العمل .
- في الأسواق الإستھلاكیة التي شكلت السلع المدعومة فیھا مجرد غطاء لتھریب العملات
الصعبة إلى الخارج تحت شعار إتسیراد لم یتم ، أو تم لبضائع تم تحویلھا مباشرة الى
الخارج ، أو تمت إعادة تصدیرھا الى الخارج عبر التھریب المنظم ، بدأت تظھر سلع
جدیدة موازیة ، بعضھا مصدره صناعات لبنانیة كانت مھمشة فإنتعشت بفعل فراغ
السوق ، أو كانت میتة فتم إحیاؤھا ، أو تم إنشاؤھا بفعل قراءة حاجات السوق ،
وبعضھا مصدره سوریة التي حافظت صناعاتھا على دورة شبھ طبیعیة رغم الحرب ،
وتستطیع بسبب فارق حجم السكان وفارق الكلفة إمداد السوق اللبنانیة بسلع إستھلاكیة
ودوائیة عدیدة ، صار مألوفا ان تشاھد على رفوف أماكن البیع ، ویتوقع الخبراء أن
یتفاعل المصدران المحلي والسوري للرسو على نوع من تقسیم وظیفي موضوعي
للقدرات التنافسیة وبالتالي لتلبیة الأسواق ، مثل ما یحصل في المنتوجات الزراعیة
والإنتاج الحیواني .
- رغم إرتفاع سعر الصرف لیبلغ عشرة أصعاف سعره الرسمي ، فإن الزیادة تبقى نسبیة
في تأثیرھا على الفاتورة الإستھلاكیة ، حیث الكھرباء ممولة من الدولة ویتسوفى ما
یسدد من فواتیرھا على سعر دولار منخفض ، وھو مدعوم من الدولة أصلا ، وحیث
المحروقات لا تزال بنسبة %85 على سعر الدولار الرسمي ، ومثلھا الخبز ، وقد
تصبح بنسبة %50 مع تخفیض الدعم ، والدواء كذلك والفاتورة الھاتفیة مثلھما ،
وبدلات إیجارات البیوت والمكاتب والمحال التجاریة ، وتسدید القروض المستحقة
للمصارف ، خصوصا التي تغطي قروضا سكنیة وإستھلاكیة كشراء السیارات ، ما
یجعل وفقا للخبراء تأثیر إرتفاع سعر الصرف على الفاتورة الإستھلاكیة للبنانیین ، وفقا
ما تعبر عنھ نسبة إرتفاع الأسعار خلال سنتین %200 بینما سجلت في الأزمة السابقة
. 1100%المفارقة ھي أن میزان المدفوعات یبدو متجھا نحو التوازن ، وبالتالي یتم واقعیا ردم
الفجوة التي كانت اساس الإنفجار وكانت تتسبب بالضغط على سوق الصرف لزوم
حاجات الإستیراد ، ورغم ذلك یتواصل إرتفاع سعر الصرف ، وھو ما یعود إلى قیام
مصرف لبنان إلى تضخیم الكتلة النقدیة بطریقة إصطناعیة ، عبر طباعة وضخ المزید
من الأوراق النقدیة في الأسواق ، لھدفین ، الأول تغطیة نفقات الدولة التي إنخفضت
مواردھا ، والثاني السعي لتخفیض خسائره وردم الفجوة بین مطلوباتھ وموجوداتھ ،
بواسطة أوراق مالیة لا تكلفھ سوى ثمن الورق والطباعة ، والواضح أن من بیدھم
القرار التشریعي الوتنفیذي لا یریدون الأخذ على ید مصرف لبنان لوقف ھذه العملیة
الجھنمیة ، التي تضیع معھا القدرة الشرائیة للبنانیین بفعل التضخم ، ویضیع معھا ما
تبقى من ودائع للبنانیین باللیرة اللبنانیة ، لأن مصرف لبنان یقوم بتمویل سلع حیویة
مثل فیول كھرباء لبنان ، من ما یسمیھ بالإحتیاط الإلزامي الموازي لودائع اللبنانیین
بالدولار ، والتي تنخفض تدریجیا مع تراجع ھذه الودائع ، وما لدى المصرف
المركزي من دولارات سیكفي لمواصلة ھذه العملیة لسنوات .
- كما في الأزمة السابقة لا یبدو أن العامل الإجتماعي والشعبي قادرا على فرض مسار
مختلف ، سواء نحو الأفضل او نحو الأسوأ ، وتبدو السیاسة قادرة على التحكم مرة
أخرى بإتجاه التغییر ، ولیس خافیا أن التجاذب الحكومي الجاري ، ھو في جزء كبیر
منھ تجاذب حول الأحجام والأدوار في ظل تغییرات إقلیمیة ودولیة یحتفظ كل فریق
بأوراقھ بإنتظار تبلورھا ، تماما كما حدث عام 1990 ، وما أشبھ الیوم بالأمس .
2021-03-17 | عدد القراءات 1549