محاكم الرأي العام والحقيقة والعدالة
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
- حق الشعوب بإجراء المساءلة والمحاسبة لقادتها ومحاكمتهم هو قمة تجسيد الديمقراطية ، ولذلك فإن ما تتيحه وسائل التواصل الإجتماعي من فرص للتعبير بصفتها أحد أشكال هذه المحاكمة يمثل مكتسبا جديدا للديمقراطية ، وفي الأزمات الكبرى التي تجتاح الأوطان وتشعر الشعوب بفشل قادتها تصير هذا المحاكمة أكثر من حق لتتحول إلى واجب ، وليس من بلد يحتاج أكثر من لبنان لمثل هذه المحاكمة ، لكن ما يصح في محاكمة السياسات والسياسيين عن سياساتهم ، لا يمكن جلبه إلى ساحة العمل القضائي واعتبار محكمة الرأي العام صالحة للبت بالأمور القضائية وكشف الحقائق وإقامة العدالة ، وتجربة اللبنانيين مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري وشعار الحقيقة والعدالة ، ومحاكم الرأي العام لا تزال حاضرة في الذاكرة .
- خلال خمسة عشر سنة من تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري ، أقيمت محاكم على صفحات الصحف وشاشات التلفزيون ، وفي الساحات والشوارع ، وتبني الرأي العام إتهامات ورددها وأصدر بموجبها أحكاما ، ثم ما لبث أن تراجع عنها ، وفقا لوجهة الضخ الإعلامي التي تلاعبت بمشاعره وبصياغة وجهة الاتهام ، وعندما تمت تبرئة جهة كانت قد اتهمت لم يكن أحد يكلف نفسه عناء الاعتذار ورد الاعتبار ، فقد تنقل الإتهام من سورية الى الضباط الأربعة وصولا الى حزب الله ، ومن المفارقات أن الرأي العام الذي كان يتقبل إتهام كل من هذه الجهات في توقيت كان يتقبل براءتها في توقيت لاحق ، ومحاكم الرأي العام هي محاكم الغضب ، والانتقام من الخصوم ، وتصفية الحساب مع عنوان سياسي ، لا تحل مشكلة الحاجة للتحقيق القضائي المبني على الوقائع والأدلة ، والتحديد القانوني الدقيق لحدود المسؤوليات وتبعاتها ، وهذه هي مهمة القضاء في السعي للحقيقة والعدالة ، بعيدا عن تلبية شحنات الغضب ، ورغبات الانتقام ، التي تكون مشروعة بالنسبة للمصابين والضحايا وذويهم ، لكنها خطيرة عندما تصير أداة تسيير للقضاء .
- القاضي الحصيف في قضية بحجم تفجير مرفأ بيروت ، هو الذي يصارح اللبنانيين بأنه ليس أداتهم لتغيير النظام ، فالطريق لذلك هي صناديق الإقتراع ، حيث على اللبنانيين الغاضبين من نظامهم أن يذهبوا ليغيروا ، لآ أن يقول "بلدنا لن يبقى كما هو، والتغيير يجب أن يحصل" ، بينما هو يتولى مهمة التحقيق في أضخم تفجير في العالم ، وواجبه أن يقول لأهالي الضحايا ، أتفهم غضبكم وثورتكم ورغبتكم بالإنتقام من نظام متهالك ومن رموزه لما آلت اليه دولتنا ، فكانت السبب بضياع ابنائكم وارزاقكم ، لكنني لن أعدكم بالإنتقام ولا بالغضب ، فلن أوجه إتهاما إلا بسند ودليل ، ولن أحمل المسؤوليات جزافا لأرضي رغبتكم المشروعة بالإنتقام ، أو لألاقي غضبكم المحق ، وإن وجدت ان هناك جريمة بفعل فاعل سألاحق الفاعل حتى غرفة نومه مهما علا شأنه ، أما إن كان التفجير نتيجة إهتراء الدولة وتفكك مؤسساتها وانعدام روح المسؤولية في مفاصلها ، فأعدكم أنني لن ابحث عن كبش فداء ، وسأوجه الإتهام للذين من واجبهم أن يعلموا ولم يعلموا ، وللذين يملكون الصلاحية لكي يتحركوا ولم يتحركوا ، لا أن أتهم الذي عرفوا ولا يملكون صلاحية التحرك ، لكنه للأسف فعل العكس ، محاكيا محكمة الرأي العام .
- لاحق القاضي طارق بيطار رئيس حكومة على علمه ، وهو يعلم انه حاول التحرك ولم يسعفه الوقت ، بينما تجاهل اسلافه معتبرا جهلهم عذرا ، رغم سنوات التغاضي ، وهو هنا العذر القبح من ذنب ، و لاحق وزراء على توقيعهم إحالات لقضاء لم يتحرك وبيده التحرك ، ولم يلاحق رؤساءهم الذين يملكون قدرة التحرك ، ولاحق مدير عام أمن الدولة الذي قام بما يجب عليه القيام به ، كي لا يتهم بمحاباة رئيس الجمهورية ، ولاحق مدير عام الأمن العام الذي لا صلاحية له بالتحرك ، كي يقول انه لا يهاب أحدا ، بينما تفادى الإستماع لأغلب هؤلاء قبل توجيه الإتهام عبر وسائل الإعلام ، وهذا مناف لقرينة البراءة ، وسرية التحقيق ، وقد طعن بسمعتهم ، وأساء لمن يقوم بمهام حساسة داخلية وخارجية منهم ، وأضعف مكانته ، ولا يملك أحد جوابا لماذا لم يستمع القاضي لكل هؤلاء ، كشهود ثم ينصرف إلى إعداد قراره الإتهامي ، فيصدره مرفقا بطلبات الإذن بالملاحقة ، و رفع الحصانات ، بدلا من نشر أسماء عرف أصحابها من الإعلام بأنهم ملاحقون ، ووصلت الإستدعاءات والطلبات الى المؤسسات المعنية بمنح الإذن عبر الإعلام قبل يومين من وصولها رسميا ، وما دام القاضي قد صرح في حواره مع تلفزيون عزمي بشارة العضو السابق في الكنيست ، بأنه يملك خيارا أخيرا هو إصدار قراره الإتهامي المدعم بالأدلة وإيداعه الرأي العام ، فلماذا لم يسلك طريق السرية والتحفظ والعناية والحذر حتى يكتمل قراراه الإتهامي المدعم بالمستندات والأدلة ، بعد ان يستمع لكل من يريد الاستماع اليه كشاهد ، وبعد اكتمال التقرير الاتهامي بالأدلة يطلب الأذون وان لم يحصل عليها ينشر القرار الإتهامي ويتركه بتصرف الرأي العام .
- لماذا تتكرر مع القاضي بيطار ذات التجربة مع سلفه القاضي فادي صوان ، بالضعف أمام الإعلام ولعبة الرأي العام ، فنقرأ كلاما عن استدعاءات جديدة ستحدث هزة ، فهل يعتقد القضاة أن هذا الإستعراض يزيدنا ثقة بكشف الحقيقة وإقامة العدالة ؟ ولماذا تسريب الإتهام المعلن ؟ وما هي جدوى الكلام الذي يناسب العمل الإنتخابي أكثر مما يناسب العمل القضائي ؟
- لأصحاب نظرية اذا لم يكن لديك ما تخشاه فلماذا لا تذهب الى المثول أمام القاضي نستعيد تجربة الضباط الأربعة الذين أدانهم الرأي العام يوم اتهموا ، وبرأهم يوم خرجوا ، لكن الذين ضاعت سنوات من عمرهم كانوا هم الضباط وعائلاتهم ، والذين اصيبت سمعتهم كانوا هم وعائلاتهم ، ونسأل أنفسنا من هو الذي أنصفهم بعدها وعوض عليهم ما خسروه ، والجواب لا أحد ، فالأصل يبقى بأن يكون القضاء نزيها ومهنيا ومحترفا ومسؤولا وبعيدا عن السياسة والشعبوية والإستعراض ، لكن يبدو أن الدولة التي تسبب إهتراؤها بتفجير المرفأ ، قد تسبب إهتراؤها مرة أخرى بتفجير التحقيق .
2021-07-12 | عدد القراءات 1539