مأزق فكرة الدولة في لبنان نقاط على الحروف ناصر قنديل

مأزق فكرة الدولة في لبنان 

نقاط على الحروف

ناصر قنديل

- من مفارقات الخطاب السياسي والإعلامي الترويج لوهم إمكانية وجود قضاء وجيش و ادارة مالية تعتمد معايير دولتية ، اي المصلحة العليا للدولة بمعايير السيادة والقانون ، بغياب وجود الدولة نفسها ، وليس المقصود اطلاقا ما يجري في ظل حال التفسخ والتلاشي الراهنين في حال السلطة وعجزها عن التماسك ، ففي أشد درجات تماسك السلطة لم تكن هناك دولة بالمعنى الجدي للدولة ، اي مرجعية موحدة ناظمة للمجتمع والأفراد وفقا للقوانين ، وشأن تماسك السلطة وتراجعه منفصل عن شأن وجود دولة وعدم وجودها ، وبغياب الدولة تصير مرجعيات المؤسسات في لحظات تماسك السلطة مرسومة عبر السقوف التي ترسمها السلطة نفسها وليس الدولة ، كمثل كل سجل التعامل القضائي والعسكري والمالي خلال سنوات ما يسميه اللبنانيون بالاستقرار ، فالجيش ينطلق من نص يلزمه بتنفيذ القرار السياسي للحكومة ، والمصرف المركزي يمول ، والقضاء لا يبادر بل ينتظر ، وعندما تتفسخ السلطة وتفقد تماسكها ، تصير مرجعيات القضاء والجيش والمصرف المركزي ، في طور التحول إلى سلطات رديفة ، تسعى برضاها أو مرغمة ، مثلها مثل السلطة المتفسخة ، الى توفير شروط التأقلم مع تحديات الأزمة وتوفير مقومات البقاء كدائرة مغلقة تضاف الى نظام الدوائر المغلقة القائم ، أو إلى السعي لامتلاك أوسع رصيد ممكن في إعادة تكوين السلطة المقبلة ، عبر تقديم أوراق الاعتماد للجهات التي ستتولى المهمة ، وهي حكما جهات خارجية ، ويكفي كمثال أن نذكر بكيفية تعامل القضاء والجيش مع مسألة تطال السيادة مثل مسألة العميل عامر الفاخوري بين قرار الإفراج عنه وضمان انتقاله الى السفارة الأميركية ، ومثال تعامل حاكم المصرف المركزي مع كل الملف المالي بخلفية الخط الأحمر والضوء الأخضر اللذين تضعهما واشنطن ، ومثال التعامل الأمني والقضائي مع فضيحة التجسس السعودي الإماراتي ، التي تسببت حادثة مماثلة لها بأزمة بين واشنطن وبرلين رغم تحالفهما العميق .

- شرط قيام دولة في أي مجتمع هو أن يتشكل كمجتمع موحد تحركه قضايا الدولة التقليدية ، كالسيادة والأمن والتنمية ، وينقسم حول النظر إليها افقيا ، وتتحرك شرائحه بين التشكيلات السياسية صعودا وهبوطا ، وهكذا تتناوب الأحزاب على امتلاك الأغلبية اللازمة للحكم ، وتتشكل مقابلها الأقلية التي تتولى المعارضة بإنتظار تحولها إلى أكثرية فتحكم ، بينما في لبنان يقوم الإنتظام الإجتماعي ضمن دوائر مغلقة تمثلها الطوائف ، ينقسم المجتمع عبرها عموديا ، ويتشكل الإنقسام داخلها عموديا ايضا على اساس عائلي أو مناطقي أو حزبي ،وعندما تتهدد السيادة أو يفقد الأمن أو ينهار مستوى المعيشة ، لا يحدث التهاب ثوري في المجتمع يطلق مقاومة وطنية شاملة دفاعا عن السيادة ، أو يستنفر الشعب للإلتفاف حول مؤسساته العسكرية والأمنية طلبا للأمن ، أو يتجمع الفقراء ومحدودو الدخل في انتفاضة للتغيير رفضا للإنهيار ، انما تزداد الدوائر المغلقة إحكاما بإغلاقها ، فيصير انتهاك السيادة حتى لو كان بحجم الإجتياح "الإسرائيلي" موضوعا لتعميق الانقسام لا لتحقيق الوحدة ، فتقاوم الإحتلال دوائر و تحيد عنه دوائر أخرى ، وتنخرط معه دوائر ثالثة ، ويصير فلتان الأمن سببا للتقوقع ضمن دوائر الأمن الذاتي ، ويتحول الانهيار الاجتماعي الى حافز لتوثيق الروابط التكافلية داخل الدوائر المغلقة .

- أدرك مفكرون لبنانيون هذه العلة مبكرا ، فتحدثوا عن أهمية وحدة النسيج الإجتماعي ، و دعوا لإلغاء الطائفية ، وطرحوا  مشاريع  للنهوض الوطني والقومي ، وفي منتصف القرن الماضي كانت ذروة نجاح القوى اللاطائفية في تشكيل حضور وازن ، بربط ثلاثية السيادة والازدهار والوحدة ، بحيث بدا التخلص من الطائفية طريقا للاستقلال والنمو ، فاستنفر أهل الطوائف والخارج المتضرر من خطاب الإستقلال والتنمية لإطاحة كل موجات هذه النهضة منذ اجتماعهم لإعدام مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة ، وقد مثلت حرب العام 75 آخر أشكال التمهيد لإعادة تشكيل المجتمع على أساس يعمق التمركز والاستقطاب حول المرجعيات الطائفية ، ويضعف فكرة الدولة ، عبر ما أنتجه إتفاق الطائف والسياق الذي ولد فيه ، وجاء انفجار فقاعة الطائف ماليا وسياسيا وأمنيا ليفتح الباب بحثا عن مخارج وحلول ، لكن اللحظة المضيئة التي ظهرت في 17 تشرين كانت مخادعة ، فسرعان ما ثبت أن الدوائر المغلقة أكثر ثباتا في زمن الأزمات منها في زمن الإستقرار ، وأن الخارج قد تنبه لخطورة قيام تشكيلات لاطائفية وطنية فصنع مولودا غب الطلب ، وفرانكشتاين اللاطائفي كوليد جديد لاطائفي ليس الا مسخا يكرر مع التشكيلات الطائفية ذات الخطاب ، "حكومة اختصاصيين تلتزم المبادرة الفرنسية وتفاوض صندوق النقد الدولي و تحظى برضا الخارج "،لكنه يتشدد أكثر منها في تلبية متطلبات هذا الخارج طلبا للرضا ، فيضيف الدعوة لنزع سلاح المقاومة ، وهي الدعوة التي تهيبتها التشكيلات الطائفية خوفا من الوقوع في الفتنة ، ما ينفي عن هذا المولود  أي صلة بمفهوم الوطنية ، ويرسم علامات استفهام حول صلاحيته كبديل عن التشكيلات الطائفية يصلح لبناء الأمل على مشروع قيام دولة ، طالما أنه ينزع منها أبرز صفاتها وهي السيادة .

- الأزمة الحكومية الراهنة تختصر مشهد غياب الدولة ، وضعف فرص نموها ، فالمناصب الخاصة بالطوائف تنتخب داخل طوائفها ، والتوفيق بينها لاسترداد تشكيل المؤسسات يبدو معجزة يصعب تحقيقها دون تدخل الخارج ، ما دامت الدوائر المغلقة تمنح قادتها الثقة رغم ضراوة الأزمة بإسم حقوق الطوائف وصلاحيات ممثليها في السلطة ، وما يسمى بتشكيلات المجتمع المدني تسابق ، مثلها مثل مؤسسات الدولة الرديفة على نيل رضا الخارج ، وبورصة الترشيحات تكشف هذه الثنائية ، ومثلما هو حال الحكومة حال قضية الحقيقة والعدالة ، دوران في حلقة مفرغة بين حقيقة وعدالة الطوائف ، أو حقيقة وعدالة الخارج ، ولو لبس ثوب الداخل ، وتبادل الاتهامات في النقاش حول الانتقائية وحصانة القضاة والنواب يكفي .

2021-07-23 | عدد القراءات 1452