بين التغيير السلمي والمخاطرة بالفوضى
كتب ناصر قنديل
- يستسهل البعض تقديم الأمور بطريقة سوداوية تحت شعار الثورية ، بسردية تقوم على التركيز على نقاط الضعف في تركيبة وخطة الحكومة الجديدة لمواجهة الأزمات البنيوية في النظام الإقتصادي والمالي ، وحجم التشابك في المصالح بين الهياكل السياسية الوازنة والتشكيلات الممسكة بالوضعين المالي والإقتصادي ووقوفهما معا وراء الإحتكار وسياسات الإفقار ، من داخل المؤسسات المالية الحاكمة ومن مواقع القرار الوازن في القطاع الخاص المصرفي والتجاري .
- يستخلص هؤلاء ذات النتيجة التي بنى عليها جيل التغييريين في مطلع سبعينيات القرن الماضي آمالا كبار بإمكانية إحداث إختراق في بنية النظام السياسي والإقتصادي عبر الرهان على عملية تثوير شعبية للطبقات الفقيرة ، ورهان على تحطيم الجدارن الطائفية التي تنتصب كحواجز لتقسيم صفوفها ، لإستيلاد حركة عابرة للطوائف تفتح طريق التغيير ، وكانت الحصيلة بتداخل الإنقسام حول المسائل الوطنية المتصلة بالهوية مع الإنقسامات الطائفية والقضية الإجتماعية ، فتنفجر بقوة حضور التدخل الخارجي ، القائم أصلا على إستهداف ميزان القوى الذي يهدد مصالحه ومشاريعه ، حرب أهلية طاحنة امتدت لخمسة عشر سنة ، ويطاح بالوطن والتغيير من بوابة إنهيار مقومات السلم الأهلي ، وضياع الدولة وحضور مؤسساتها ، التي كان تحطيمها بالأمس هدفا للثوار .
- تقول التجربة اللبنانية لكل عاقل بعيد عن المراهقة والعبثية ، أن قوى التغيير عندما لا تملك منفردة ميزان القوى اللازم لفتح مسار مستقل تقوده ، ويكون عليها الإختيار بين التداخل مع القوى الحاكمة والسائدة بكل ما فيها من مساوئ وعلاقات بالخارج ، وبين التداخل مع منظمات تحمل لواء المجتمع المدني التي تحمل لواء الثورية لحساب السفارات وعملا بتوجهياتها ، فلا مجال للتردد لأن التداخل مع الأولى أشرف ألف مرة من التداخل مع الثانية ، فالأولى رفضت السير بالبلد نحو الفتنة وحمل لواء نزع سلاح المقاومة ، بينما فعلت الثانية الأسوأ ، والأولى حاضرة بقوة ما تمثل من الشعب بينما تحضر الثانية بقوة من تمثل في الخارج ، وتقول التجربة اللبنانية ان الخروج من الطائفية لايتم على الساخن بل على البارد ، والثورة الساخنة وصفة سريعة للحرب الأهلية والفوضى ، والطريق البارد هو طريق تراكم التسويات الأكثر تحررا بالتتابع من القيود الطائفية ، ولذلك فالخروج من الطائفية يبدأ من فوق لا من تحت ، وهذا هو مبرر قبول التغيريين بمسار اتفاق الطائف ، ودور إتساع الشرائح الشعبية المؤمنة بالخيارات البعيدة عن الطائفية هو تسريع هذا التحرك من فوق والضغط من تحت على الفاعلين فيه لجعله أقرب .
- تقول التجربة اللبنانية أن التغيير في البنية الإجتماعية والإقتصادية ونمط الإقتصاد السائد لصالح ترجيح كفة الإنتاج على الريع ، ومكافحة الفساد ، وتعزيز معايير دولة الرعاية التي ترعى هموم مواطنيها وشؤونهم ، على حساب دولة المزرعة والفندق ، اي التي تعامل مواطنيها كأجراء أو نزلاء لا كمواطنين ، لا يتحقق عندما يكون نظام الريع والمزرعة يحقق وهم الرفاه للناس ، وانه يصير مسارا ممكنا عندما يعلن نظام الريع والمزرعة إفلاسه ، لكنه مسار يبدأ بالحفاظ على الدولة ومؤسساتها وانتظام حياتها الدستورية ، والسعي لتعزيز ميزان قوى ضاغط داخل مؤسساتها لصالح التغيير ، بقوة الإستثمار على بلوغ الخيارات الأخرى الطريق المسدود ، وحجم الإنهيار وضغط مفاعيله التي لا تقوم بأعبائها الا حلول جذرية ، وتغييرات بنيوية .
- لذلك لا يمكن التعامل مع الإنقسام حول الحكومة الجديدة بصفته انقساما بين ثوار وتقليديين ، رغم خداع الصورة ، فالمشهد ينقسم الى صفين ، صف يجتمع فيه جمع سياسي من القوى الطائفية الحاكمة يتقدمهم الرؤساء والأحزاب الطائفية الكبرى مع مؤمنين صادقين بالسعي للتغيير السياسي والإقتصادي والإجتماعي ، وهذا مبرر وجود قوى المقاومة في هذا الصف ، وصف آخر يضم جمع سياسي يتقدمه حزبا القوات والكتائب ، وهي القوى الأكثر جذرية في النظام الطائفي والطبقي القديم ، ومنظمات المجتمع المدني الممولة والمشغلة من السفارات الغربية ، وبعض التغيريين الذين يتوهمون أن للتغيير في هذا الإصطفاف فرصة او الأصح للتميز ، وإدعاء التعفف والترفع ، يكفي مثالا للتداخل ، ان تصف قناة العربية المناوئة للمقاومة والناطقة بلسان حكام الخليج والمروجة للتطبيع بوصف الحكومة الجديدة بحكومة المحاسيب ، وان يصفها جماعة السفارة بأنها حكومة حزب الله .
- ولادة الحكومة ستبقى نقطة بداية لإستعادة السياسة في بلد كاد يفتقد كل عناصر الحياة ، لتستعيد الحياة السياسية والمؤسساتية دورة الحياة ، كنقطة انطلاق لمنع إنهيار محكوم بالتحول لمسار للخروج من النفق ، يصبح أسرع كلما توحدت جهود التغيريين تحت راية عقلانية واقعية تستفيد من التجربة وتتنبه لمخاطر المراهقة في زمن لا مكان فيه الا للرشد .
2021-09-11 | عدد القراءات 1430