اكذوبة التفرغ للصين لتغطية الإنكفاء الأميركي
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
- يتشارك منظرو التسويق لسياسات الرئيس الميركي جو بايدن ، مع خصومهم داخل اميركا وخارجها ، بالترويج لنظرية أولوية المواجهة مع الصين بالنسبة للإدارة الأميركية ، وإشتقاقا منها نظرية أخرى تقول بأن الإنسحابات والتراجعات الأميركية ليست إلا تموضعا جديدا عنوانه التفرغ لمواجهة الصين ، ولأن في هذا السياق قدر من الإعتراف بالضعف يمثله العجز عن الجمع بين مواجهة الصين وخوض المعارك المفتوحة في جبهات أخرى ، والإعتراف بالصعود الصيني وتصويرها كخصم تحديا كافيا يستحق التفرغ له ، يحقق أصحاب النظرية شروط الإغواء لخصومهم لمشاركتهم في تسويقها ، لكن اي تدقيق بعناصر هذا الزعم سيوصلنا الى إعتباره كذبة كبيرة .
- التفرغ لمواجهة الصين ، كعنوان يعني توفير شروط مواجهة أفضل والإنصراف عن كل إلهاء عن هذه المواجهة ، والتمسك بكل تموضع سياسي أو إقتصادي أو عسكري يحسن شروط هذه المواجهة ، ولأن المواجهة مركبة على المستويات السياسية والإقتصادية والعسكرية ، فكل تقدم أميركي في هذه الميادين هو تسجيل نقاط تعزز فرص الفوز في المواجهة ، وكل تراجع يعزز فرص الخسارة ، خصوصا عندما تكون الصين هي المرشح الأول للتموضع مكان الفراغ الأميركي ، وإذا توقفنا أمام الخطوات الأميركية الأخيرة في ظل رئاسة بايدن ، والتي تم تلطيف الطابع الإنهزامي فيها والتخفيف من وطأته المعنوية بعبارة تجميلية إسمها التفرغ لمواجهة الصين ، سنجد أمامنا ثلاثة نماذج ، الأول هو الإنسحاب من أفغانستان ، والثاني هو السعي للعودة الى الإتفاق النووي مع إيران ، والثالث هو الحلف الأميركي البحري البريطاني الأسترالي في المحيطين الهندي والهادئ المسمى "أوكوس" ، وقد تم ربط كل منها بجملة التفرغ للمواجهة مع الصين ، سواء على قاعدة وقف الإستنزاف في حالة أفغانستان ، أو منع ظهور قوة نووية تربك المشهد الدولي وتوازناته كمبرر للعودة إلى الإتفاق النووي مع إيران ، أو التقرب من خط المواجهة مع الصين كما يفترض بمهمة حلف أوكوس .
- في حالة أفغانستان ، يطرح السؤال عن صدقية الكلام حول كون الإنسحاب العسكري ، وتبعاته السياسية والإقتصادية يشكل عنصر تعزيز للوضعية الأميركية في المواجهة مع الصين ، وأفغانستان كانت هدفا أميركيا بالأساس لوقوفها جغرافيا على مثلث التقاطع بين روسيا والصين وإيران ، وكانت الحرب التي مولتها ودعمتها المخابرات الأميركية منذ ثمانينيات القرن الماضي ضد الإتحاد السوفياتي في أفغانستان تتم تحت عنوان قطع الطريق على تنامي قوة روسيا والصين وإيران ، كمصادر لتحديات للأمن القومي الأميركي ، وعندما غزت القوات الأميركية أفغانستان عام 2001 كانت كل المواقف الأميركية في عهود جمهورية وديمقراطية تربط البقاء في أفغانستان بإستراتيجيات المواجهة مع الثلاثي الآسيوي الصاعد ، وما بعد الإنسحاب الأميركي من أفغانستان ، تبدو أفغانستان جائزة إقتصادية للصين ، وجائزة عسكرية لروسيا ، وجائزة سياسية لإيران ، فكيف يكون الإنسحاب منها مكسبا لمشروع التفرغ لمواجهة الصين ، وعبرها تكون المواجهة من المسافة صفر ، على الأقل لجهة فرص التنصت والحرب المخابراتية والإلكترونية ، إذا كانت الحرب العسكرية مستبعدة ؟
- في حالة إيران ، يكفي التذكير بأن معاهدة التعاون الإستراتيجي بين الصين وإيران كانت سابقة لوصول بايدن الى البيت الأبيض ، والتذكير بأن إيران تمثل قلب آسيا الذي يشكل إنضمامه الى خطة الحزام والطريق التي تشكل عنوان المشروع الصيني الأول على الساحة الدولية ، تمثل تحولا نوعيا في ميزان القوى بين أميركا والصين ، فعندما تصبح الصين في إيران فهي تلقائيا صارت على بوابة الخليج وبوابة قزوين وبوابة المتوسط وعلى تماس مباشر مع تقاطعات حدودية لعشرات الدول ، وأي تفكير بإعادة الصين إلى ما وراء الحدود يبنى على منع الصين من التموضع في إيران ، أو على الأقل بعدم تمكين إيران من تشكيل شريك فاعل للصين في توسيع نطاق نفوذها الدولي والإقليمي ، وهذا ما كان أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب يبررون به ما يسمونه بالضغوط القصوى ، وما جاء بايدن ليعلن فشله ، مسلما بأن إعاقة إيران عن التقدم أصيبت بالفشل ، وأن مواصلة المواجهة تعني تكبد المزيد من الخسائر دون جدوى ، ولأن هذا صحيح ، فالصحيح أيضا أن التسليم بفوز إيران في جولة التحدي هو تسليم ضمني بأن الصين ستكون على ضفة الرابحين في كل إنجاز تحققه إيران .
- في حلف أوكوس الذي قدمه أنصار بايدن كخطوة متقدمة للتقرب من البيئة الجغرافية المحيطة بالصين ، بعض الخداع البصري ، لأن السؤال هو هل هدف الحلف التقرب من الصين أم تأمين خط دفاعي عن الجغرافيا الأميركية من الميمنة البريطانية والميسرة الأسترالية كترجمة للإنكفاء ، أم خطة حشد نحو الصين ، والجواب يكمن في ربط ولادة حلف أوكوس من رحم حلف الناتو ، في وقت تلقى الناتو ضربة أولى بالإنسحاب من أفغانستان وأصيب بتصدع لا تزال تردداته تتواصل ، وجاء إعلان أوكوس بمثابة الضربة القاضية للناتو ، بما اصاب فرنسا من خسارة وأذى بسببه ، وبعدما اصابت شظايا صفقة الغواصات العلاقات الأميركية الفرنسية ، فهل يمكن الحديث عن التفرغ للمواجهة مع الصين دون اولوية بناء حلف سياسي وعسكري متين تقوده واشنطن ويشاركها المواجهة ، وهل ان تدمير الناتو يخدم المواجهة مع الصين ، وقد كان الناتو مرشحا أولا لتشكيل خط المواجهة الدولية مثله مثل قمة السبعة ، كركائز تتداعى من حول واشنطن ، التي تعرف ما تفعل ، لكنها تكذب بما تقول ، فما تفعله واشنطن هو التخفف من أعباء سياسة الدولة الأولى في العالم للتفرغ لوضع داخلي على شفا كارثة ، لا يملك ترف الدفاع عن موقع الزعامة في العالم وهو ينهار ، ويشكل شعار التفرغ لمواجهة الصين ترجمة نموذجية للكذبة المطلوبة في تغطية هذا الإنكفاء .
- خصوم واشنطن الذين يكررون معادلة التفرغ الأميركي للمواجهة مع الصين مدعوون للمزيد من التدقيق بالعبارة قبل تردادها .
2021-10-05 | عدد القراءات 1565