كورونا وفايسبوك : ازمات النمو ام الأفول ؟ نقاط على الحروف ناصر قنديل

كورونا وفايسبوك : ازمات النمو ام الأفول  ؟ 

نقاط على الحروف

ناصر قنديل

- منذ سقوط جدار برلين وتقدم أميركا كصاحب نموذج للعالم تحت عنوان العولمة المستنسخة وفقا لنظرية نهاية التاريخ ، أي اعتبار النموذج الليبرالي الجديد آخر نتاج التقدم الإنساني إقتصاديا وسياسيا وثقافيا وإجتماعيا ، كانت الحملات العسكرية الأميركية الجزء الأقل أهمية من المشروع الأميركي العالمي ، رغم كونها اخطر وجوه المشروع وأكثرها ظهورا وحضورا ، ولكن وقفت خلف هذه الحملات العسكرية الأميركية سواء في حرب يوغوسلافيا او أفغانستان  او العراق ، مشهدية فلسفية وثقافية وتسويقية تقوم على نهاية عهد الدولة الوطنية ، والمقصود نهاية عهد الدولة لحساب الشركة أولا ، ونهاية عهد الوطنية ، اي الحفاظ على الخصوصيات الثقافية والسياسية للكيان الوطنية للدول لصالح نموذج عالمي ، لا مكان فيه للهويات والخصوصيات ، التي ترتبط عموما بفكرة الدولة ، وسيتكفل حلول الشركة مكان الدولة بالتمهيد لتكون الشركة عالمية ، وتزامن استعراض التفوق العسكري الأميركي مع استعراض نماذج التفوق التكنولوجي ، ومن خلالهما نموذج الشركة ، ففي الحرب لم تعد الجيوش قوة وطنية تحمل مشروع بلادها ، بل صارت الحرب عملا مأجورا تعاقديا تنفذه الشركات ، تواكبه شركات أخرى في تكنولوجيا الإعلام والإتصال ، ومثلها الثورات لم يعد قائما على فعل تاريخي معبر عن إرادة نخب تقود شعوبها نحو مشروع حالم ، بل صارت الثورات مقاولة تلتزمها شركات تسمى جمعيات مجتمع مدني ، وتواكبها موازنات تنفقها الشركات على وسائل التواصل والأقنية التلفزيونية ، وشعارات صنعتها شركات الدعاية المتخصصة ، كعملية تجارية صرفة أعتمدت فيها قواعد توصيف المنتج ودراسات الجدوى وتحديد الكلفة والأرباح المتوقعة .

- جاء الإعتراف الأميركي بالفشل العسكري بنظر البعض منفصلا عن فشل المشروع الذي جسدته اميركا الجديدة ، أي نموذج الشركة العالمية ، ولذلك يذهب هذا البعض الى الدعوة للتمهل في الحديث عن فشل المشروع أو دخوله مأزقا بنيويا ويتخيلون فرصة لتعديل في وجهته يتراجع خلالها العسكري لصالح الإقتصادي ، الذي لا يزال الأميركي فيه أولا إن لم يكن حاكما ، وهم بالتالي يقرأون الأزمة التي يمر بها المشروع الأميركي بصفتها واحدة من أزمات النمو لمشروع في طور الصعود رغم الإخفاقات ، ولذلك تجب معاينة المأزق العسكري للحملات الأميركية ، بعدما صار الإعتراف الأميركي بالفشل علنيا ورسميا ، وصولا للقول بسقوط امكانية صناعة السياسة باللجوء للقوة العسكرية ، كما وصف الرئيس الأميركي جو بايدن الإطار السياسي لقرار الإنسحاب من أفغانستان ، دون أن ينسى أن المعيار هو سقوط الجدوى الإقتصادية لإستثمار ثلاثمئة مليون دولار يوميا ، وما يزيد عن تريليون دولار خلال عشرين عاما ، كتفسير للفشل ، فهل كان الحال مختلفا في مشيرة الإنتقال من الدولة الى الشركة ؟

- الخلاصة الأولى التي كتبتها سنوات الحروب هي تثبيت الخصوصيات والهويات على حساب نظرية الهوية العالمية القائمة على الربحية وحدها ، وفق معادلة اقتلاع شجرات الزيتون لصالح التنافس على سيارة اللكزس ، فنهضت أشجار الزيتون ، بما ترمزاليه من هويات خصوصية ، وهذا ما قاله النهوض الروسي والصعود الصيني والصمود الإيراني ، ووقفت أميركا بعظمتها ضعيفة أمام شجرة زيتون الهوية الصهيونية مؤكدة سقوط نظرية سقوط الهويات ، وتراجع مشروع الشركة عن عالميته ، لصالح الإكتفاء بكونه أميركيا ، وصار الحديث عن الدولة العظيمة لا الدولة العظمى ، وعن استعادة اميركا النموذج والمثال ، ولكن الإختبارات القاسية لم تترك المجال لنظرية الشركة أن تبقى بعيدا عن تحديات إثبات أهليتها ، وكانت جائحة كورونا أصعب الإختبارات الإنسانية ، بينما كانت أزمة شركات تكنولوجيا المعلومات والإتصالات الفقاعة الأبرز التي وضعت الأزمة على الطاولة .

- خلال جائحة كورونا ظهرت الفوضى وانكشف ضعف النظام الصحي ، وانكشفت خطورة الإعتماد على منهج الربحية في عمل الشركات للإجابة على تحديات العناية بصحة البشرية ومواكبة أخطار الأوبئة ، فبقيت أميركا الأولة الأشد تأثرا بالجائحة وعجزا عن السيطرة عليها رغم أنها الدولة الأغنى والدولة الأقوى تقينا ، والأكثر إمتلاكا لأدوات المواجهة والوقاية ، ورغم دخول الجائحة عامها الثالث لا تزال الإصابات والوفيات تسجل أعلى الأرقام في أميركا ، رغم أنها بقياس عدد السكان تشكل 20% من عدد سكان الصين التي نجحت بالسيطرة على الجائحة وخرجت عمليا من تداعياتها ، في مواجهة عملية لنموذجي الدولة والشركة ، وقبل ان تحط كورونا رحالها ، انفجرت أزمة شركات الإتصالات العملاقة وتحولت الى قضية عالمية مع الأزمة التي حلت بالشركة الأعظم التي تتحكم بيوميات نصف سكان العالم ، فالأزمة التي تفجرت حول شركة فايسبوك ليست مجرد عطل تقني ، ولا مجرد نقاش حول الضوابط التي يجب اولا يجب ان تحكم حال شركات التواصل ، بل هي تعبير عن الأسئلة الكبرى التي يطرحها نموذج الشركة بدلا من الدولة ، حيث الربح هو الموجه الأول ، على حساب ضمانات سلامة التشغيل وأمان المواد المتداولة وأخلاقيات استخدامها ، حيث ما نشهده ليس إلا اول النقاش ، كما حدث يوم الأزمة التي تفجرت عام 2008 من بوابة الرهونات العقارية ، وانهيار النظام المصرفي ومن خلفه البورصة ، واضطرار الدولة الى اللجوء لتأميم بعض المصارف ووضع اليد عليها ، وتقييد الباقي منها .

- ليس ما تشهده أميركا مجرد أزمة ، بل انفجار لنموذج ، وتعبير عن أفول مشروع أمبراطوري ، وهذا لا يعني ان اميركا ستزول عن الخارطة ، أو انها ستكف عن التصرف كدولة قوية ومقتدرة ، أو انها لن تحاول ترميم نموذجها ومحاولة اصلاحه ، لكن كل ذلك سيجري تحت عنوان عريض هو أن الشركة العالمية فشلت كبديل للدولة الوطنية ، وأن ما يجري نقاشه الآن في واشنطن هو كيفية العودة لمفهوم الدولة الوطنية القوية ، بعد فشل الشركة العالمية الحاكمة .

2021-10-06 | عدد القراءات 1421