قوة المقاومة بحيوية الحالة و"الإنفصام " جزء منها*
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
- يحب الكثيرون من المثقفين والمفكرين المؤمنين بخيار المقاومة أن يروا هندسة أداء حزب المقاومة الأكبر الذي يقود سياستها وحركتها في الميدان وفقا لما يعتقدونه النموذج الأصلح في تجارب مشابهة ، والنموذج الأقرب لتحقيق التفوق ، والأقدر على تحقيق النصر ، والأكيد أن هؤلاء الآتون من مدارس فكرية غير المدرسة الفكرية التي تنتسب اليها مقاومة حزب الله ، يمثلون بحضورهم ومواقفهم المساندة والإنتقادية أحد عوامل قوة المقاومة وثراء تجربتها ، وهم في معاركها قيمة مضافة ، بموقفهم القاطع برفض اي مساومة مع الثلاثية التي وصفها جمال عبد الناصر بثالوث الشر ، الإمبريالية والصهيونية والرجعية ، وخصوصا ما تمثله ثقافة الكاز ونواطيرها في منابر الإعلام ومنصات التواصل الإجتماعي .
- خلال أربعة عقود قدمت المقاومة نموذجها القائم على رؤية الهدف وتحديده بدقة ، والإخلاص الكلي لجعله عنوان الحركة ، وإطلاق مناخ الإشتباك بإتجاهه لتحشيد واستنهاض قوى ومقدرات ذاتية الفعل ، تنمو وتتطور وترافق وتواكب مشروع المقاومة بخصوصيتها ، تسهم فيه وفقا لرؤية حساباتها ، التي تخضع أحيانا لمعايير العلاقات الدولية والإقليمية الضاغطة بالمال والاستخبارات ، وتخضع أحيانا لمعايير طائفية وحسابات انتخابية و سلطوية ، وقد تصالحت المقاومة مع رؤية هذا التعدد والتعامل معه بروح الإنفتاح والقبول والتفاعل الإيجابي ، ومحاولة فهم قوانين حركته في الصعود والهبوط ، دون ممارسة جهد قسري لضبط التحالفات بجبهة أو برنامج ، وهما ركنان رئيسيان في أغلب التجارب النموذجية التاريخية ، خصوصا في تجارب حركات التحرر من الإستعمار ، التي شهدها العالم في مرحلة ما بعد إنتصار الثورة الصينية ، وخلال حرب فييتنام ونموذجها الفذ ، وهذه النماذج التي درستها المقاومة وتقدر عظيم ميراثها ، وتحترم دعوات الأصدقاء للتمثل بها والتماثل معها ، تبقى عنصر تأثير دائم على مسار تجربة المقاومة عبر ما يضخه الحلفاء الثقافيون في ساحة العمل المقاوم من دعوات وانتقادات تلقى الإهتمام والإحترام مهما بدا ظاهرها قاسيا ، وتتفاعل في بيئة المقاومة الثقافية والفكرية بما فيها مراكز صناعة القرار ، وأحيانا كثيرة تسهم في صناعة السياسات ، على قاعدة المنهج الأصلي لعمل المقاومة وحزبها الأكبر ، التمسك بالهدف الأول والهدف الأخير ، وترك ما بينهما لمسار المواجهة يرسم تفاصيله دون إدعاء إمتلاك خطة متكاملة وأجوبة حاضرة على كل الأسئلة ، وعملية الملء تتم بقوة فعل إجتماعي ضخم يشكل حزب المقاومة القوة الأشد تنظيما فيه ، لكنه لا يمثل في لحظات اندلاع المواجهات الحاسمة مركز ثقل القوة ، بل قائدها .
- المقاومة في زمن حزب الله وقيادة السيد حسن نصرالله ، ليست فعلا حزبيا إراديا لفرض تغيير في مسار الصراع ، كما هو حال كل الأحزاب ، والثورية منها خصوصا ، بل هي فعل قيادي مرن وناعم لإرادة اجتماعية متعددة المصادر المعرفية والمشارب الثقافية والعقائدية ، لصد هجمة خارجية ، يمثلها المشروع الأميركي والعدوان الصهيوني ، وتمثل الإرتدادات الرجعية والإرهابية والتطبيعية والإستسلامية بعض نتائجه في نقاط الضعف الإجتماعي العربي عموما ، واللبناني بعض منه وبخصوصيته التاريخية ، يصير اللبناني خصوصا ، وقوة الفكرة التي تستند اليها المقاومة ليست تلك المعتمدة على نص جاهز ومكتوب يقدم للحفاء للتلاقي من حوله ، بل هي الفكرة التي تصوغها الوقائع الصلبة بوجه الحلفاء وتجعل انخراطهم في اللحظة الراهنة للإشتباك تعبيرا اصيلا عن مواقعهم ، ربما ، وغالبا ، بعد إختبارهم لخيارات أخرى ، وهذه الخيارات ربما تكون وغالبا ما تكون ، متناقضة بين الحلفاء وثمرة حروب سياسية وإعلامية ضروس بينهم ، ويتشكل من كل ذلك ، المناخ الإعلامي والسياسي لحالة حيوية حركية إسمها المقاومة الإجتماعية والشعبية ، ومن ضمنها بالمناسبة تعبيرات متخلفة وتعبيرات متطرفة ، وعتب وغضب ، كما من ضمنها تعبيرات وطنية وقومية ويسارية ، ورؤى عرفانية وزهد وتنسك ، ومقابلها شهوات سلطوية وتطلعات مالية وحسابات طائفية مريضة ، ويقف حزب المقاومة بنقاء ثباته وخياراته على ضفة تلقي تلك اللحظة التفاعلية التي تحشد في سياق تصاعد التناقض نحو الإنفجار ، كل هذه المكونات ، ويتولى الدفع بها نحو الإشتباك الحاسم الذي يملك بحكم حضوره ومقدراته وتنظيمه وحجم الثقة التي راكمها لدى جميع المكونات ، موقع القيادة فيه ، فيرسم انطلاقا من هذه اللحظة مسار الأحداث وفق خطة واضحة ودقيقة تأخذ كل الفرضيات وتملك جوابا عليها ، ومن يقرأ الخط البياني التراكمي سيشهد محطات هذه الإشتباكات الحاسمة وكيفية تبلورها .
- في قلب هذه الحالة الحيوية الحركية يشكل "الإنفصام" جزءا مدركا منها ، ويحتل المثقفون الذين يتهمونها ب"الإنفصام" مكانة مؤثرة ، وهم جزء من هذا "الإنفصام" المرغوب ، طالما أنه يعبر عن أشكال تفاعل صادقة مع الهجمة الخارجية ، ضمن تنوع التعبيرات المتعددة عن هذا التفاعل ، والبيئة الإعلامية الحاضنة لثقافة المقاومة كما البيئة الحقوقية كما البيئة الاقتصادية ، في تفاعل وتطور وصراع ، لا تضمها أطر ومؤسسات تفكير وتخطيط مشتركة ، لأن المجتمع هو المدى الأوسع لتلقي الأفكار وإنتاجها ، والمعيار الحقيقي للنصر والهزيمة والربح والخسارة سياسيا وإعلاميا كما عسكريا تقوله لحظات الإشتباك الفاصلة ونهاياتها ، والفرق كبير بين القتال العسكري الذي يحسمه فائض القوة المادي والمعنوي للمقاومة ، وتشكل المركزية عامل قوة رئيسي فيه ، ويحسم غالبا بالضربة القاضية ، بينما المواجهات السياسية والإعلامية المتعددة والمتشابكة التي يتم ربحها بالنقاط ، بالاستثمار على القيمة المضافة التي تستمدها المقاومة من منظومة التفوق الأخلاقي ، ويشكل "الإنفصام" عامل قوة رئيسي فيه ، لا تقد فرص أرباح دائمة في كل المواجهات ، لكنها توفر مصدر الربح النهائي حكما ، والمساومة على هذا التفوق الأخلاقي مرة طلبا للربح تسقطه للأبد ، لأنه في الأخلاق لا مكان لنصف الأخلاق ، كما في السيادة والحرية .
- من المهم الالتفات إلى أن ثقافة المركزية المنظمة في تجارب الجبهات الوطنية لم تكن نحو العدو فقط ، بل في أحيان كثيرة قامت على إقصاء الشريك واسكاته بداعي الحفاظ على تماسك الجبهة ، بينما ثقافة المقاومة الأشد ديمقراطية التي نعيشها ، تحصر مركزيتها في مؤسستها الحزبية ولحظات المواجهات الفاصلة ، رغم انتسابها للخطاب الديني الذي يفترض به أن يكون أكثر التصاقا بزعم امتلاك اليقين من أصحاب النظريات الوضعية ، وهي تتسع لفرح "الإنفصام" وتراه تعبيرا عن حيوية تجربتها ، اذا احسن اصحاب الإختلاف ممارسته بروح تحاكي الناس دون التعالي والتجريح والأستذة ، وتراه المقاومة شهادة لمصدر هام من مصادر قوتها ، ويكفي النظر الى المؤسسات الإعلامية التي يتعامل معها خصوم المقاومة بصفتها مؤسسات حزبية ، وهي مؤسسات حرة تنتمي لمدارس فكرية غير مدرسة حزب الله ، لكنها تلتقي معه في ثقافة المقاومة بكل تجلياتها وخطوطها الكبرى وبوصلتها فلسطين .
*نقاش لمقالة الكاتب أسعد أبوخليل في صحيفة الأخبار "انفصام حزب الله في الحرب الإعلامية"
2021-12-20 | عدد القراءات 1415