ناصر قنديل
– لم يفصل الأميركيون ومن خلفهم كلّ الجسم النخبوي الثقافي في الغرب بين مفاوضات الملف النووي الإيراني، وموازين القوى السياسية والعسكرية في الصراع الدائر على مساحة العالم عموماً وخصوصاً حول آسيا، وبمثل ما شكل الانسحاب الأميركي من أفغانستان نقطة تحوّل في هذه الموازين لصالح إيران وحلفائها، جاءت أحداث كازاخستان محاولة لتعديل معاكس لهذه الموازين، فالوقائع المتجمعة لدى القيادة الروسية والتي بحوزة حلفاء روسيا وفي طليعتهم إيران والصين، والتي نشر بعضها في وسائل إعلام روسية وأوروبية وأميركية وإيرانية، تكشف أنّ ما جرى كان حصيلة تعاون استخباري أميركي بريطاني تركي، جمع بين تحريك جماعات مسلحة ومنظمات المجتمع المدني، لوضع اليد على العاصمة الكازاخية، والحديث يدور عن البلد الذي يحتلّ موقعاً شديد التأثير على الجغرافيا السياسية التي تفصل روسيا عن إيران وتفصلهما عن الصين، وتختزن ثروات استراتيجية هائلة، وتملك فيها أميركا و”إسرائيل” محطات أمنية وعسكرية تستهدف إيران وروسيا والصين.
– بالمقارنة مع سورية توقع الأميركيون أن تستمرّ الأحداث في كازاخستان أسابيع وشهوراً في بعدها المحلي، وأن تحتلّ مكانة إعلامية وسياسية تتيح تحويلها الى منصة لتوجيه الرسائل الأمنية والسياسية والتفاوضية، وبالمقارنة مع سورية توقع الأميركي أن تحتاج موسكو الى شهور وسنوات حتى تتخذ قرار التدخل المباشر، فقاموا بتسريع روزنامة التحرك لفرض أمر واقع خلال الأسابيع الأولى ينهي أمر السيطرة على العاصمة، ويضع معادلة جديدة يصعب كسرها لاحقاً، فاتحين الباب لحركة روسية مشابهة التي جرت في أوكرانيا، أيّ اقتطاع روسيا لمقاطعات على حدودها تشكل حزاماً لأمنها، وبنوا استراتجيتهم لكازاخستان على الجمع بين دروس كلّ من تجربتي سورية وأوكرانيا.
– في المقابل أظهرت القيادة الروسية أنها تعلمت من التجربتين الكثير من الدروس، وأولها عدم أخذ الحراك الشعبي بعين البراءة وحسن النية عندما يجري في توقيت سياسي شديد الحساسية وفي ساحات ذات أهمية استراتيجية، والثاني هو إعطاء الأولوية لفتح الملفات الاستخبارية لفهم ما يجري بالتعرّف على هوية المجموعات التي تقود الحراك واتخاذ القرار على أساسها، والثالث هو أنّ نموذجي سورية وأوكرانيا لترجمة التوجهات الروسية سجلا نجاحاً نسبياً كان يمكن أن يكون كاملاً لو لم يتمّ منح الوقت الكافي للغرب لترجمة توجهاته بالزجّ بقوى خارجية حكومية وغير حكومية قادرة على فرض أمر واقع جغرافي كما حدث في سورية، أو فرض أمر واقع سياسي في العاصمة كما حدث في أوكرانيا، والدرس الرابع هو التوجس من الدور التركي ولعبه لأدوار متعددة تحت العباءات المختلفة الألوان، ورهانه المستمر على خلق وقائع تغيّر من موازين دوره في سورية بوجه روسيا وإيران.
– انطلاقاً من هذه الدروس قامت موسكو بحسم قرار التحرك الاستباقي خلال ساعات، وشكل هذا التموضع أساساً لحسم سريع لما كان مخططا، وفرضت موازين قوى غيّرت حال الازدواج التي كانت تعيشها كازاخستان، فتدحرج الحسم الميداني ليصبح حسما سياسياً واستخبارياً مع الامتدادات التي كانت مخزوناً احتياطياً أميركياً وتركياً و”إسرائيلياً”، فصارت المعركة التي خاضها الأميركيون لفرض معادلة جديدة مدخلاً لمعادلة عكسية، وأهمّ نتائج التسريع الذي فرضته المتغيّرات في الموازين على مسار التفاوض حول الملف النووي الإيراني الجارية في فيينا لصالح قبول العودة الى الاتفاق بشروط ترضي إيران، أنه يحسم أمر قرار واشنطن الإستراتيجي بأولوية مصالحها على حساب مصالح حلفائها، وفي مقدمتها المصالح “الإسرائيلية”.
2022-01-17 | عدد القراءات 1511