لماذا يتمنّى بعضُ اللبنانيين الفشل للترسيم؟

ناصر قنديل
– خلال شهور رافقت مسار التفاوض على ترسيم الحدود البحرية بدا أن الملف يشكل موضوعاً رئيسياً في الاستثمار السياسي، بصورة لا تعبّر فيها المواقف عن حقيقة ما يرغبه أصحابها تجاه مضمون مفردات الترسيم، بقدر ما تحكمهم رغبات سياسية تتصل بإظهار الفشل ثمرة لحلف سياسي يضم ما يسمونه بالطبقة السياسية، ويقصدون فيه بصورة تثير الاستغراب كلاً من الرئيس ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري والتيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل، رغم المسافة التي تفصل الرئيسين والحركة والتيار، ويستثنون منه كل من هو خارج هذا الثلاثي. وعندما يتحدثون عن الحكومة ورئيسها يقاربون مسؤوليتها مخففة، بصفتها مشروع تدوير زوايا بين الرئاستين، كما يضع كثيرون من هؤلاء قيادة الجيش في موقع فوق النقاش رغم موقع الجيش الرئيسي في عملية الترسيم.

– الطرفان الأميركي والإسرائيلي ينطلقان في مقاربة التفاوض من منطلق الرغبة بالسيطرة الإسرائيلية على الحقول الغنيّة بفرص استخراج النفط والغاز، لكن مع الأخذ بالاعتبار أن هذا ليس ممكناً بسبب امتلاك لبنان لورقة قوة تمثلها المقاومة وسلاحها، وعزمها على الدفاع عن حقوق لبنان السيادية وتهديدها مراراً باستهداف أية محاولة استثمار إسرائيلية في حقول يعتبرها لبنان ملكاً اقتصادياً خالصاً له. ومشكلة الذين يقاربون ملف الترسيم من موقع الخصومة مع حليفي المقاومة التي يمثلها حزب الله، وهما حركة أمل والتيار الوطني الحر، أنهم ينكرون هذه الواقعة المتصلة بكون التفاوض ما كان ليكون لولا المقاومة التي يتجاهلون تأثيرها، ويتذكرونها فقط عندما يريدون مساءلتها ولو من موقع المزايدة عن أي خط للترسيم يمكن أن يرسو عليه التفاوض. وهم يعلمون أنه لو كان الأمر عائداً للإسرائيلي والأميركي لتركت “إسرائيل” تستثمر ما تشاء وبالقوة، وترك للبنان بكائيات التعاطف اللفظي من منبر مجلس الأمن الدولي أسوة بما حصل مع كل جنوب لبنان طيلة عشرين عاماً من الاحتلال رغم وجود قرار دولي يلزم “إسرائيل” بالانسحاب حتى الحدود الدولية المعترف بها.

– بالنسبة للمقاومة كان موقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله واضحاً، لجهة عدم التدخل في ترسيم الحدود السيادية للمنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان، رغم تمني أن تكون الأوسع والأبعد مدى بما تتيحه افضل الاجتهادات في مقاربة القوانين المعمول بها دولياً. والمقاومة التي تترك ترسيم الحدود كخيار نهائيّ للدولة برئاساتها وحكومتها ومؤسستها العسكرية، وقد بات واضحاً أنها تتراوح بين الخطين 23 و29، بحيث لا يوجد من يقبل من مسؤولي الدولة ومؤسساتها بما هو دون الخط 23، وينظر البعض للخط 29 بصفته خطاً لا يقبل التفاوض، بينما يعتبره آخرون خطاً تفاوضياً، كما قالت الرسالة اللبنانية الموجهة لمجلس الأمن الدولي، وتعتبر المنطقة الواقعة بين الخطين منطقة متنازع عليها لحين نهاية التفاوض بالتوصل إلى نهاية إيجابية. وبالتالي فالمقاومة حتى حين الوصول لحل تفاوضي نهائي تعتبر أنها قوة ردع لمنع أي استثمار “إسرائيلي” في كل المناطق والحقول الواقعة شمال الخط 29، ولولا هذا الموقف من المقاومة، ما كان بيد لبنان أية ورقة قوة تفرض التسليم باستحالة تمرير ما هو دون الخط 23، وتلزم بأخذ الخط 29 على محمل الجد طلباً للتوصل إلى الحل التفاوضي.

– الواضح اليوم أن التراجع الأميركي عن الصيغة التشاركية لاستثمار المناطق المتنازع عليها، لما تتضمنه من مضامين تطبيعيّة، هو أبرز ما تضمنه كلام الأمين العام لحزب الله تجاه ملف التفاوض عشية وصول المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين. والأوضح أن هذه الرسالة التي سمعها هوكشتاين من رئاستي الجمهورية ومجلس النواب، قد ظهر مفعولها بسحب مشروع التشارك من التداول، وتبدو الرغبة الأميركية بتسريع التوصل لحل تفاوضي محكومة بالقلق من نتائج وتداعيات بقاء النزاع حول ثروات النفط والغاز مفتوحاً، واحتمال تحوله الى مدخل لتصعيد يمكن أن تلجأ المقاومة في مواجهته الى خطوات نوعيّة. وبفعل هذا القلق جاءت التعديلات التي تضمنتها المقاربة الأميركية الجديدة لجهة تقديم عرض يقوم على توزيع السيادة على حقول النفط والغاز، وفق معادلة شمال الخط 23 للبنان وحده، وجنوب الخط 29 ضمن فلسطين المحتلة، وما بينهما يتم تناوله حقلاً بحقل فيحسب حقل قانا من حصة لبنان ويحتسب حقل كاريش من ضمن حقول فلسطين المحتلة.

– لبنان يفاوض، والأمر لا يحتمل التلاعب، ومن يتمسك بالخط 29 موقفه أشد جذرية على الصعيد الوطني إذا كان من الذين يؤمنون بالاستثمار على قوة المقاومة، ويعترفون بأن الفضل كله يعود لوجود هذه المقاومة في جعل لبنان في موقع قوة، ويدعون المسؤولين في الدولة لحسن استثمار هذا العامل، للحصول على الأفضل، لأنه ممكن، أما الذين يتاجرون بالخط 29 وهم يقولون ان المسؤولين في الدولة يفرطون بالحقوق الوطنية، لكنهم يتموضعون على خط العداء للمقاومة أو التهرب من الاعتراف بكونها نقطة القوة الوحيدة التي تفرض على “إسرائيل” التفاوض، وعلى أميركا البحث عن حلول وسط والتراجع عن الحل التطبيعي، فهو مزايد، وخائف من نجاح مفاوضات الترسيم وانعكاسها قوة لدولة يطمح بالتسلل الى مؤسساتها عشية الانتخابات النيابية بتعابير ثورية، ما لم يقدم وصفة واضحة لمصادر قوة بديلة للبنان عن قوة المقاومة.

2022-02-11 | عدد القراءات 2919