ناصر قنديل
– رغم السعي الحثيث للأميركيين والأوروبيين لمحو الذاكرة في ما يتصل بغزو العراق وحجم الجرائم التي رافقته، واستناده الى أكذوبة تهديد الأمن القومي الأميركي بامتلاك أسلحة دمار شامل ثبت عدم وجودها، وشنّ الحرب من خارج أي غطاء دولي قانوني، يعتقد الأميركيون أن التجاهل فيه قدر من الإنصاف لاستحالة المقارنة. فالعراق ليس أوروبياً ببساطة، ولذلك لا تنطبق عليه المعايير التي تستند إليها الإدانة الغربية لروسيا، ولا حرجَ بالقول إن الأميركي الذي ورث زعامة أحادية للعالم، وكان بكامل قوته مطلع التسعينيات، لم يقم بخوض حرب يوغوسلافيا الا عندما طلب منه الأوروبيون ذلك، والعالم الثالث بنظر الأميركيين والأوروبيين ملكية استعمارية من جهة، وعالم متوحش من جهة موازية فيصحّ معه التأديب والعقاب ولو دون مسوغات ودون معايير. والقتل العشوائي للمدنيين ينطلق من مبدأ حق التصرف كتصرف المالك بملكه، ولذلك لن نناقش المثالين العراقي والأوكراني من زاوية الشرعية والمشروعية، ولا من زاوية درجة احترام الغرب للمعايير القانونية والأخلاقية، لأن منهج التفكير الغربي لا يشعره بالحرج الجواب أن المسألتين مختلفتان بحكم اختلاف الأصل، الاختلاف بين بلد أوروبي وبلد آسيوي وأفريقي.
– المقارنة من زاوية عملياتية عسكرية وسياسية، قد تكون مفيدة لفهم سياق الصعود الروسي والهبوط الأميركي، وفهم أسباب الفرص المتاحة لروسيا لإنهاء حربها بتحقيق أهدافها، وأسباب فشل أميركا في فعل الشيء نفسه، وقد نجحت ظاهرياً باحتلال العراق خلال أسابيع محدودة، لكنها قالت بعد عامين أنها فشلت فشلاً ذريعاً، وكي تكون للمقارنة فرصة التحقق بالقياس النسبي بين المثالين، يجب أن نثبت عناصر الترجيح الموضوعية لصالح فوز المثال الأميركي، وفشل المثال الروسي، وليس العكس، فواشنطن هاجمت العراق في ظل غياب أي منافس دولي قادر على التحرك، بينما تذهب روسيا لحرب أوكرانيا في ظل أعلى درجات الاستنفار الأميركي والأوروبي، والعراق بعيد جغرافياً عن اهتمامات الأمن القومي لدول العالم والمنطقة، بينما تقع أوكرانيا في قلب هذه الاهتمامات الموازية. وفي ظروف العراق كانت العزلة الإقليمية بفعل استعداء الحكم العراقي لكل جيرانه، من إيران إلى الكويت الى سورية، في ظل تبعية عمياء لسائر الدول العربية للسياسات الأميركية، بينما أوكرانيا تبدو طفلاً مدللاً وأيقونة للغرب كله، والعراق كان بلداً مفككاً ومتعباً بفعل حصار كامل دام لأكثر من عشر سنوات، وحروب عديدة على جبهات الكويت وإيران وكردستان، وجيش متهالك التجهيزات والمقدرات، ومجتمع منقسم حول نظام الحكم وسياساته، بينما أوكرانيا دولة قوية ومنتعشة سياسياً واقتصادياً، ومقتدرة عسكرياً وتقنياً. وتكفي المقارنة بين مساحة أوكرانيا التي تعادل أكثر من ثلاث مرات مساحة العراق، وعدد سكان أوكرانيا الذي يعادل ضعف عدد سكان العراق، وأن الإعلام الغربي المهيمن عالمياً كان في صف الحرب الأميركية على العراق وهو في الصف المناهض لروسيا في حرب أوكرانيا، وأن الأميركي طليق اليد مالياً، يوازيه روسي معاقب وملاحق في المصارف العالمية، لاستخلاص معادلة ان ما ينتظر روسيا في أوكرانيا يجب ان يكون بفعل كل ذلك عشرة أضعاف ما واجهه الأميركيون في العراق.
– بالرغم من تحول الحرب بوضوح الى حرب روسية مع اميركا وأوروبا، سواء بحجم العقوبات التي فرضت على روسيا أو بحجم التدفقات المالية والتسليحية التي تصل الى اوكرانيا، فإن ما يميز العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عن نظيرتها الأميركية في العراق أربعة عناصر جوهرية، الأول أن أسباب روسيا بالشعور بالقلق والتهديد من تحضيرات انضمام أوكرانيا الى حلف الأطلسي ليست مزاعم مفبركة على طريقة كذبة اسلحة الدمار الشامل في العراق، والثاني أن الهدف الثابت لروسيا يتصل بعلاج جذر المشكلة أي تثبيت حياد اوكرانيا دستورياً ودولياً، وهو هدف يتجنب التسريع في العملية العسكرية لإنهائها قبل نضج فرص التفاوض نحو الهدف، بما يسمح بتفادي عنصري الفشل الأميركي في العراق، التحول الى قوة احتلال، وتنصيب حكم تابع، أما العنصر الثالث فهو أن ظهور خلفية الحرب كمواجهة تخوضها أميركا وأوروبا مع روسيا يربط الحرب حكماً بالمعارك الدائرة منذ ثلاثة عقود بوجه التفرد الأميركي بحكم العالم، ويجعل معركة روسيا للصمود والذهاب نحو النصر حرباً بالنيابة عن كل الساعين لإضعاف الهيمنة الأميركية وحجم الاستسلام الأوروبي أمام متطلباتها. وهذا يفسر أسرار نجاح الثلاثي الروسي الصيني الإيراني بالتغلب على المشاكل والتباينات التي ظهرت مع بداية الحرب من موقع المقاربات والمصالح المختلفة تكتيكياً، والإسراع بالسيطرة عليها لصالح المصالح الاستراتيجية العليا المشتركة، أما العنصر الرابع فهو الترابط الجغرافي والديمغرافي والتاريخي واللغوي بين روسيا وأوكرانيا، ما يمنح روسيا من جهة نقاط تفوق تكتيكية كثيرة في الحرب، لم تتوافر لأميركا في العراق، لكنه يجعل ثمن هزيمتها بحجم السقوط الكامل، ما يجعل خوض الحرب باعتبار النصر فيها مسألة وجودية، حيث لا بديل للنصر الا النصر.
– لذلك كله ورغم الحملة الإعلامية الغربية الشرسة والوقحة على روسيا، ومشاركة المؤسسات الأممية في الترويج لها، تنجح روسيا بتجنب الكثير من الاستفزازات، لضمان أعلى درجة من ضبط النفس وتجنّب الوقوع في فخ استهداف المدنيين، ويكفي القول إن التقارير الأممية تتحدث بعد عشرين يوماً من الحرب عن ستمئة من الضحايا المدنيين، بينما كان العدد وفق الأرشيف الأميركي لحرب العراق في الأيام الأولى للحرب ذاتها قد تجاوز الثلاثة آلاف، رغم أن نوعية المواجهات وعدد السكان، يفرضان ان يكون العدد في أوكرانيا أكثر من ضعف العدد في العراق، اي ستة آلاف، وأن يكون 10% من هذا الرقم ليس أمراً عفوياً يحدث في الحروب.
2022-03-17 | عدد القراءات 1290