المشهد الفرنسي : الإضطراب الأوروبي
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
- تقدم فرنسا من بوابة الإنتخابات الرئاسية صورة عن أوروبا القديمة ، التي تضم الى فرنسا ألمانيا وأسبانيا وإيطاليا ، بعدما صار واضحا أن ما يسميه الأميركيون بأوروبا الجديدة المكون من دول أوروبا الشرقية كبولندا وبلغاريا ورومانيا تحولت الى مستعمرات أميركية تعتاش على حساب إقتصادات دول أوروبا القديمة ، والصورة التي تقدمها فرنسا تعبر عن حراك إجتماعي سياسي بخلفية إقتصادية وإجتماعية وثقافية حكمت المسار الأوروبي خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث كان شارل ديغول نموذجا فرنسيا للنظرة الأوروبية الساعية لموقع دولي مستقل عن السياسات الأميركية ، على قاعدة التحالف الأوروبي الأميركي بديلا من التبعية الأوروبية للسياسات الأميركية ، وهذا السعي للإستقلال كان سياسيا وإقتصاديا وعسكريا وثقافيا ولغويا ايضا ، ويمكن القول ان حصيلة نصف قرن بعد الحرب العالمية الثانية كانت الفشل الذريع ، عندما قدمت فرنسا جاك شيراك فروض الطاعة لواشنطن بعد غزو العراق ، وكان وزير خارجيتها دومينيك دوفيليبان كبش الفداء .
- فشلت أوروبا القديمة بتحويل نشوء الإتحاد الأوروبي الى طريق لبناء كتلة عالمية جديدة متحالفة مع أميركا من موقع الإستقلال ، وقد جاءت ولادة الإتحاد كترجمة لمسعى أميركي لتحميل دول أوروبا الغنية مسؤولية الإنفاق على إعالة دول أوروبا الفقيرة الخارجة من تحت المظلة السوفياتية وتأهيلها لعضوية حلف الناتو ، مع وعد بالقطاف عندما تؤتي عملية الحصار الموعودة لروسيا ثمارها ، ويتاح فرض معادلة إقتصادية جديدة تتيح سلاسة تدفق الغاز والنفط من روسيا الى أوروبا بأسعار رخيصة تمكنها من الدخول في منافسة الصين على أسواق آسيا وأفريقيا ، بعدما يكون الإمساك بمنابع وأنابيب الطاقة وممراتها البحرية قد أتاح لأميركا فرض سقوف للنمو الإقتصادي وسقوف لإستهلاك الطاقة على الصين ، وليس خافيا ان هذا المشروع بدأ بالتصدع مع فشل الحرب التي خاضتها أوروبا وراء أميركا في سورية وأفغانستان ، وانتهت بالفشل ، وترجمت نهاية المشروع بالإنسحاب البريطاني من الإتحاد الأوروبي إعلانا بنهاية مدة صلاحيته السياسية .
- بمنظار المستقبل الأوروبي تحمل الحرب الأوكرانية تعبيرا مزدوجا ، فهي من جهة آخر الرهانات المشتركة مع أميركا على إمكانية إخضاع روسيا ، ومن جهة موازية إعادة إنتاج أوروبا سياسيا على نار الحرب الهادئة بتأثير قضايا مصيرية ووجودية مفتوحة ، مثل العلاقة بإمدادات الغاز والنفط من روسيا ، وحدود المصلحة الأوروبية ، وإعادة تشكيل الهوية الوطنية على قاعدة البحث المستمر عن الهوية ، وعلاقة هذه الهوية بالإنتماء الأطلسي ، وهي العناصر التي تفسر صعود اليمين مجددا في أوروبا ، وفقا للمثال الفرنسي المتكرر بأشكال أخرى في ألمانيا واسبانيا وإيطاليا ، وهذا الإضطراب الأوروبي يشبه الى حد كبير الإضطراب الذي رافق مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وصعود الخطاب الديغولي ، لكن مع فارقين ، الأول أن مسعى الإستقلال الأوروبي يومها كان في ذروة الصعود الأميركي ، بينما هو اليوم في سياق مسار تراجعي للقوة الأميركية ، والثاني أن ساحة المعارك السياسية الدولية يومها كانت آسيا وافريقيا بينما هي اليوم أوروبا نفسها .
- يشكل فوز امانويل ماكرون في الإنتخابات الرئاسية تعبيرا عن هذه الفرصة الأخيرة ، ولذلك هو نصر بطعم الهزيمة ، والمفارقة ان مصدر ربح ماكرون كان مسلمو فرنسا الذين ردوا خطر ماري لوبان بقبول ماكرون السيئ ، كما يقولون بوضوح ، والأكيد أن المنفذين المطيعين للسياسات الأميركية في أوروبا لن يجدوا مكانا لهم في السياسة عندما تصبح كلفة هذه التبعية اضطرابات تشعل الشارع الأوروبي بقوة العامل الإقتصادي ، وستكون هذه الإضطرابات مدخلا لفك وتركيب في الهياكل السياسية والحزبية القائمة ، لجهة تعديل خطاب اليمين وتعديل خطاب اليسار ، ليكسب السباق من يستطيع قبل الآخر وبكفاءة أعلى من الآخر تقديم جواب يحفظ الوحدة الداخلية والإستقلال الخارجي ، وفي المقدمة هذه المرة الإستقلال عن أميركا ، ولعله ذي مغزى السؤال ، ماذا لو تجرأت لوبان على التخلي عن خطابها العنصري تحت شعار أن البلاد في أزمة وطنية والأولوية هي للتضامن الإجتماعي ، وأن الخروج من حلف الناتو يجب ان يشكل أولوية الفرنسيين ، أو ماذا لو نجح جان لوك ميلانشون في جعل خطاب الخروج من الناتو عنوانا موازيا لشعاراته الضرائبية ، ربما لم يفعل كلا منهم ذلك لأن الإنتخابات جاءت في مرحلة لا تزال الأسئلة الكبرى المتصلة بحرب أوكرانيا دون أجوبة ، لكنها لن تكون كذكلك في موعد الإنتخابات التشريعية الفرنسية في حزيران المقبل .
2022-04-26 | عدد القراءات 1473