مظفر النواب صانع ثقافة جيل من الثوار نقاط على الحروف ناصر قنديل

مظفر النواب صانع ثقافة جيل من الثوار 

نقاط على الحروف

ناصر قنديل

- كنا نطارده خلال قبل نصف قرن ونحن لم نبلغ الخامسة عشرة من منتدى الى منبر، وهو يتنقل متخفيا ملاحقا من أجهزة الأمن ، يتأبط ملفا يحمل فيه أوراق سفر الى العقول ، وخبرة وخميرة نضال وعذاب وتضحيات ، وشوق وقلق على وطن وأمة وقضية ، وكنا في ختام كل القاء نضج بالهتافات طلبا لأن يعيد على مسامعنا بصوته الجهوري ونبرته المترنحة وأدائه الساحر بعضا من قصيدته الثورية الساخرة ، القدس عروس عروبتكم ، كان مظفر النواب رمزا ثقافيا لجيل حمل فلسطين بين الأضلع ، ونبضت قلوبه طلبا للحرية والكرامة ، وتسابق شبابه على التشكيلات والتجمعات الثورة الوليدة ، أملا بثورة جديدة ، حلم بها مظفر وجعلنا نتشارك الحلم معه ، فكان خلال أكثر نصف قرن أمضاه في منفاه بعيدا عن بغداد ، يخط بالقلم جملا قصيرة يعتصر فيها الألم الكبير والحزن العظيم ، يعزفها بأنين ناي كسرته التجارب المرة يسكن صدره ، دون أن يدفن لحظة ذلك الوميض الساحر في عينيه ، بأن الغد الأفضل آت ، ففي أمتي لا زال هناك من يشعل نار الثورة ، ولا زال هناك من يعد بتحقيق الإنتصار ، وها هي تنبت زهور ربيع جديد على الطريق الى القدس ، يحملها مقاومون تحققت على أيديهم كثير من الأحلام ، وصاروا عيوننا التي لا تنام .

- كنا إذا أردنا أن نتحقق من الثقة بوافد جديد الى مجموعاتنا الثورية الفتية نضع تسجيلا لمظفر ، وننتظره حتى نراه يدندن معه بيوت الشعر الصقيل المتدفق ، وينفعل مع الكلمات الغاضبة تخرج عن سياق المألوف ، ويفهم معاني محيط الكلمات التي تختزن الفلسفة والثورة والثقافة وعلوم السياسة والحرب والإقتصاد ، ومظلومية الشعوب المقهورة ، وغضب الفقراء ، وطلقات رصاص تهز عروش الطغاة ، فنعرف أن هذا بات منا ، ونمد له فراشا على سطوح منازلنا الريفية المطلة على سهول فلسطين ، وكنا إذا أردنا أن نتحقق من صدق ثورة حديثة ، أو معاني حدث يحمل الشيء وضده ، ننتظر قصيدة مظفر الجديدة ، ففيها الخبر اليقين ، وإذا اعتمر الغضب في صدورنا من خيبة ، أو حدث جلل ، أو هزيمة ، ننتظر قصيدة لمظفر تنطق بلساننا بأفضل منا ، ونتبارى في شرح المعاني لا بداعي الإدعاء ، بل لتأكيد صدق الإنتماء ، فقد كان مظفر النواب فهرس المواقف وأطلس الجغرافيا ، ومعجم المعاني ، وذلك الصوت الأقرب لإطلاقة مدفع عندما يغضب ، ولخرير ساقية عندما يرضى ، ولملمس الحرير عندما يمتدح الثوار والشهداء ، ولإنهمار المطر عندما يتفاءل بالشعوب ، ولإنهماك السيف في الخطوب عندما يدعو للحروب ، دمعته الرقراقة دائما مشتاقة ، لكل البلاد ، لكنها كدجلة صممت خصصيا لبغداد .

- الشعراء العظماء عظماء ، لكن مظفر النواب لم يكن شاعرا ، هو أستاذ وفيلسوف  ومفكر وثائر ، يسيل الشعر منه دون طلب ومسعى ، ودون سؤال ، حبره يتدفق على شكل حروف شاعر ، وليس بيده للأمر حيلة ، يسكب الشاي في كأسه فيصير قصائد ، لم يأت الى بيروت لأنه منفي ، بل كانت متعة النفي انها اتاحت له تحقيق حلم القدوم إليها ، ولم يلتحق بالثورة الفلسطينية بحثا عن عمل ، بل كانت فرصة العمل في مؤسساتها تحقيقا لحلم بقي يراوده بأن يجعل فلسطين هوية لا يفارقها ، ولا تتنازل هي عنه ، ولا استقر في دمشق لأن لا عاصمة سواها قبلت بتحمل غضبه ، بل كانت شماتته بمن رفضوه ، أنهم جعلوا له سببا للغزل بالشام ، المدينة التي لا تنام ، حارسة أسوار فلسطين ، وحيث يسهل النظر الى بغداد وبث الحنين ، لأنها العشق والشوق والمدينة التي يرتاح للنوم على كتفها ، ويأنس بعيون مغمضة للوقوف في صفها ، ويذهب اليها كي لا تتعب فتأتي اليه ، وعندما كتب للمقاومة ، كان قد تفحص جمال وجهها كعشيقة منتظرة ، وقد طال الإنتظار ، ولمس شعرها وكتب لها الأشعار ، وضمها الى صدره مودعا يبكي ، فقد فاته القطار ، فقد كان الحلم أن تأتي مبكرة وهو في ريعان حمل البنادق ، وحرارة العاشق ، أما وقد تأخرت فقد ائتمنها على ما تبقى من الأحلام ، قبل أن يغمض العيون وينام .

- ليس كثيرا أن تودعه العيون بالدمع ، ما دام الحبر لا يسعفنا أن نكتب عنه وفيه كما كان يكتب وما يستحق ، فقد رحل الأستاذ الذي علمنا حروف الثورة الأولى ، وتركنا دون قصيدة تنعيه نقرأها في وداعه ، ونتسابق في تلاوتها إليه ، تقرأ طالع غدنا ، وتكتب جدول أعمالنا ، وقال تدبروا أموركم فأنتم في زمن المقاومة لا تخافوا .

- وداعا أيها الفقير البسيط ، كشعوبنا من المحيط إلى المحيط ، الموجوع مع كل جائع ، المشرد مع كل ضائع ، وداعا يا صانع كلماتنا وحروفنا التائهة ، يا حرقة هاء الهزيمة وغصة نون النكبة ووعد ألف الإنتصار في قلوبنا الوالهة ، تجعل منها هنا ، وتقول لنا ، وتعلمنا ، كيف تأخذها حرفا على حرف ، تداعبها بقواعد النحو والصرف ، ثم ترصفها وترص صفوفها وتصنع منها قصائد ، من أنت إن لم تكن شاعرا او فيلسوفا أو قائد ؟

2022-05-21 | عدد القراءات 1355