الاقتصاد الموازي يفسر الألغاز

ثمّة الكثير من القضايا والمواقف التي تبقى مبهمة وغامضة، ويعجز المنطق التقليديّ عن تفسيرها، لكن التعمّق قليلاً في خلفيات اقتصادية نشأت في ظل الأزمات، تلقي عليها الأضواء الكاشفة وتفك شيفرة ألغازها.
مثال أول تقدّمه أزمة الكهرباء في لبنان، وهي أزمة ممتدّة منذ نهاية الحرب عام 1990، رغم أن الشكل الحاضر للأزمة مختلف، لكنه في الجوهر واحد، عندما نكتشف أن الشبكة الوحيدة الباقية من زمن الحرب ولم تنجح الدولة بتفكيكها، حتى تحوّلت الى بديل عن الأطر القانونية للخدمات التي يتلقاها المواطن ويدفع لقاءها بدلاً مالياً، هي شبكة توزيع الكهرباء عبر المولدات، ومثلها شبكة توزيع اشتراكات القنوات التلفزيونية، ويستوعب الاقتصاد الموازي في هذين القطاعين عبر أكثر من عشرة آلاف شبكة توزيع كهرباء محليّة ومثلها عشرة آلاف شبكة توزيع قنوات تلفزيونية، ما يقارب ربع مليون مواطن يمثلون البنية الاجتماعية التي تستند إليها زعامات المناطق والأحياء، والتي تشكل هيكلية ثابتة في بنية الأحزاب والقيادات السياسية وفي إدارة معارك الانتخابات النيابية والبلدية. وقد صارت الموازنات المدورة عبر هذه الشبكة تزيد عن ملياري دولار سنوياً، أي ضعف موازنة الدولة اللبنانية ومؤسساتها المدنية والعسكرية. وهكذا تغيرت حكومات ووضعت خطط وموازنات، ولا يزال كل حل يصطدم بالجواب عن سؤال ماذا عن المولدات؟ وربما دون تحويل هذه الشبكة نحو الطاقة المتجددة، ومنها الطاقة الشمسية لن يتحول التأثير السلبي لهذه الشبكة إلى تأثير إيجابي!
مثال ثانٍ تقدّمه قضية النازحين السوريين، حيث أكثر من ألف منظمة غير حكوميّة، تمّ تأسيسها تحت عنوان تقديم الرعاية لهؤلاء النازحين، في الصحة والتربية والمياه والصرف الصحي والكهرباء والإيواء بالإضافة للجوانب القانونية والحقوق الإنسانية، وتبلغ المبالغ المدورة عبر هذه الجمعيات قرابة ملياري دولار أيضاً، أي ضعف موازنة الدولة اللبنانية، وتشغّل هذه المنظمات قرابة الخمسين ألف شخص بين متفرّغ ومتعاقد ومتعهّد، وترتّب على هذه الشبكة من المصالح والمنافع ظهور موقف يبدو مستغرباً بالمعنى التقليديّ اللبنانيّ، وهو الدعوة لبقاء النازحين بعكس المصلحة اللبنانية الملموسة والثقافة اللبنانية المألوفة وهواجسها التقليدية، بما فيها المخاوف من الخلل الطائفيّ والديمغرافي التي تسقط أمام خريطة ترسمها المصالح.
مثال ثالث تقدّمه ليس بعيداً عن لبنان، ظاهرة سرقة النفط السوريّ في منطقة شرق الفرات، التي تبلغ قيمتها خمسة مليارات دولار سنوياً، هي ثمن مئتي ألف برميل يومياً، ينقلها الأميركيون الى العراق ومنه الى المناطق الكردية فيه ويتمّ تصديرها عبر تركيا أسوة بالنفط الخارج من كركوك، ولا تدخل قيمتها المالية في موازنة القوات الأميركية أو جماعة قسد الكردية أو الحكومة التركية أو حكومة كردستان العراق، بل تتوزّع المليارات الخمسة الى حصص شخصية لقرابة المئة مرجع في هذه الكيانات الأميركية والكردية السورية والكردية العراقية والتركية، وعبرهم تصل عائدات وازنة للآلاف، يشكلون البنية التحتية لحماية هذا الاقتصاد الموازي، حيث لا ينفع الكلام الأميركي عن الانسحاب ولا الكلام التركي عن عملية عسكرية برية لفهم ما يجري.
المصالح أكثر قدرة على تفسير المواقف، من قدرة المواقف في رسم مسار المصالح.

التعليق السياسي

2022-12-17 | عدد القراءات 945