ناصر قنديل
– شهدت الحرب الأوكرانية مجموعة من الوقائع العسكرية والمعارك الهامة، منها معركة ماريوبول ومصانع آزوف ستيل، ومنها الانسحابات الروسية المتتالية من كييف ثم خاركيف ثم ضفة نهر دنيبر الشمالية في خيرسون. وبعد الاندفاعة الروسية البرية التي رافقت بداية الحرب، دخل حلف الناتو بثقله معتمداً على العنصر البشري الأوكراني والبولندي، لتشغيل آلة عسكرية تمثل أفضل ما لدى حلف الناتو من مقدرات، خصوصاً لتحديد الأهداف ودقة الاستهداف والاستخبارات والاستطلاع، مع تجنيد 500 قمر صناعيّ منها 70 قمراً عسكرياً، كما قال وزير الدفاع الروسي في كلمته أمام الرئيس فلاديمير بوتين أمس، بالإضافة الى منظومات صاروخيّة من نوع هاي مارس وبطاريات مدفعية هاوتزر من عيار 155 ملم، مع جسر دائم لتزويدها بالذخائر، بالإضافة لصواريخ محمولة على الكتف من نوع ستينغر وصواريخ جافلين، ومنظومة صواريخ دقيقة موجّهة عبر نظام الجي بي اس من نوع اكس كاليبر.
– في الحرب الأوكرانية أيضاً ظهرت محدودية أسلحة تقليدية كانت محور معارك الحرب العالمية الثانية، مثل الدبابات، وسلاح الجو التقليدي، فلم نشهد معارك مدرعات أو معارك جوية، كتلك التي حفرت في الذاكرة العسكرية للحرب العالمية الثانية، وتحوّلت الدبابات والطائرات الحربية الى ردائف للمدفعية والصواريخ كمنصات إطلاق متحركة، وكان الجديد الذي قدّمته الحرب هو الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة، وهي أسلحة لم تكن موجودة في الحرب العالمية الثانية، ولم تكن موجودة أيضاً في الحروب الكبرى التي شهدها القرن العشرون، سواء في الحرب الكورية وحرب فيتنام أو في حرب أفغانستان، وكان أول ظهور حاسم لها كسلاح نوعي جديد في حروب المقاومة التي شهدتها منطقتنا، خصوصاً العمليات الخاصة التي نفذها أنصار الله في منطقة الخليج، التي كان هجوم أرامكو في تشرين الأول عام 2019، الذي وصفه الكاتب الأميركي البارز توماس فريدمان في مقاله في صحيفة نيويورك تايمز، أنها غيّرت معادلات الحروب التقليدية، وبشرت بعصر جديد للحرب.
– خلال ستة شهور من الحرب أعقبت قرار الانسحاب الروسي من كييف، قرّرت روسيا اعتماد موقف دفاعيّ عسكرياً، ركزت خلالها موسكو على احتواء الخطة الغبية الرئيسية التي قامت على إسقاط الاقتصاد الروسي بحزمة العقوبات القاتلة، وترسملت على نجاحها الذي فاجأ الغرب وأحبطه، كما ظهر من تحسّن سعر الروبل، وجعلت خطتها الهجومية في غير الميدان العسكري عبر نقل الأزمة الاقتصادية الى أوروبا من بوابة أزمة الطاقة وتداعياتها المتعددة، لكن رغم إمساك موسكو بزمام المبادرة في خطتها الهجومية الاقتصادية، من الخطأ القول إن الخطط الروسية سارت وفقاً لما هو مرسوم وإن الخطة الدفاعية عسكرياً كانت مقررة سلفاً، وإنكار مجموعة أزمات وتحديات أظهرتها وقائع الميدان واضطرت القيادة العسكرية الروسية للتعامل معها، وشكلت أساس هذا التوجه الدفاعيّ، ولذلك تمّ رسم الخطوط الدفاعيّة بصورة متحركة، توّجها الانسحاب من الضفة الشمالية من مدينة خيرسون، ورافقتها التعبئة الجزئية لربع مليون جندي، واعتماد الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة لضرب بنية الطاقة في أوكرانيا وعزل البنية العسكرية عن البيئة الشعبية التي وجدت النزوح إلزامياً في ظل تعقيدات الحياة المترتبة على الحرب، لكن المهمة العسكرية للقوة النارية كانت مشاغلة قوات الناتو التي أصبح واضحاً أنها تدخل الحرب، ولو بالاستناد إلى بنية بشرية أوكرانية، وكان عنوان هذه المرحلة عسكرياً، احتواء المقدرات العسكرية التي زجّ بها الناتو في الحرب والتي يبدو أن صواريخ الباتريوت ستكون دفعة جديدة منها، واستطلاع الحدود التي يمكن له بلوغها خصوصاً في ظل الاجتماعات الأمنية الأميركية الروسية التي وضع لها هدف هو تفادي الانزلاق إلى مواجهة نووية ورسم الخطوط الحمر التي تضمن ذلك، وبناء على ذلك كله ترسيم قواعد الاشتباك التي يمكن مواصلة الحرب على أساسها.
– تتيح مراقبة مسار الحرب التي تمّ شنها على سورية، مقاربة تسمح بملاحظة تشابه في المسارات، حيث أعقبت عسكرة الأحداث في سورية عام 2011، عمليات عسكرية نوعية استعادت فيها الدولة السورية وحلفاؤها زمام المبادرة، كانت أبرزها عمليتا باب عمرو للجيش السوري في حمص وتحرير القصير لمقاتلي حزب الله في ريف حمص، لكن ما أعقب ذلك من زجّ بأكثر من ربع مليون إرهابي جرى جذبهم من كل أنحاء العالم عامي 2013 و2014، فرض انتقال الجيش السوري والحلفاء إلى الدفاع، واحتواء العناصر الجديدة التي دخلت على مسار الحرب، ومنها ظهور تنظيم داعش صيف عام 2014، ليبدأ الهجوم المعاكس عام 2016 بعدما ترتّب على التموضع الروسي العسكري في سورية توفير ركن رئيسيّ في الخطة الهجومية وهو القدرة النارية النوعية، وكانت معركة تحرير حلب هي المحطة الفاصلة التي سبقت تدحرج الانتصارات لصالح سورية والحلفاء، وشملت دير الزور والرقة والبادية وتدمر واستعادة أرياف حمص وحماة، وتحرير الغوطة وصولاً للجنوب وعاصمته درعا، قبل بلوغ خطوط أقصى الشمال التي يسيطر عليها الاحتلال التركي والاحتلال الأميركي وظهور ستاتيكو جديد.
– تبدو الحرب في أوكرانيا على موعد مع نقطة تحوّل نوعية شبيهة، سواء من خلال ما يصدر في الغرب من مخاوف من ضعف القدرات العسكرية الأوكرانية وتراجع قدرات التسليح التي تملك دول الناتو تقديمها، مقابل اكتمال بنية التعبئة الجديدة وتوريد منظومات عسكرية نوعية الى جبهات القتال، كما قال وزير الدفاع سيرغي شويغو في كلمته أمس، وكما تقول الوقائع الميدانية التي ترتب عليها خلال الأيام القليلة الماضية تسجيل أو عودة للقوات الروسية الى تحقيق التفوق البري، منذ الإنجاز الكبير في ماريوبول ومصنع آزوف ستيل، حيث دمّرت القوات الروسية البنية الصلبة لجماعات النازيين الجدد قبل ستة شهور تقريباً، والتحول الجاري في الجبهة التي وصفها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالجبهة الحاسمة في مدينة باخموت الاستراتيجية التي ستقرر مصير معارك منطقة الدونباس، والتي يبدو أن هذه التطورات كانت وراء الزيارة التي يقوم بها زيلينسكي إلى واشنطن، طلباً لجرعات دعم سريعة تحول دون الانهيار، رغم أنه قام أول أمس بتوزيع مزاعم عن تقدّم قواته في باخموت التي قيل إنه زارها دون دليل على ذلك، وهو ما يرجح أنه إعلان لرفع معنويات قواته في لحظة الانهيار، بينما اضطرت وزارة دفاعه ورئيس اركانه الى الاعتراف بخسارة مواقع هامة في المدينة ونجاح القوات الروسية بتحقيق تقدم كبير، والاعتراف بأن حرب شوارع ضارية تدور في قلب المدينة.
– تبدو معارك باخموت في أوكرانيا مفصلاً نحو مرحلة عسكرية جديدة، تشبه مكانة معارك حلب في الحرب السورية وما مثلته من مفصل نحو مرحلة نوعيّة كان عنوانها الانتصارات المتدحرجة.
2022-12-22 | عدد القراءات 935