ناصر قنديل
– في كل مرة تحلّ مناسبة من مناسبات هذا العظيم أنطون سعاده تحضر حقائق جديدة تجد طريقها للتدفق، وتفرض حضورها علينا، وتستدرجنا للكلام عنها، وبمثل ما كانت عظمة هذا الرجل في سيرته الملحمية التي توّجتها شهادة الفرسان، وفي أطروحاته العبقرية التي نجحت لأول مرة بتوطين الفكر الفلسفيّ فتقدّم منتجاً نابعاً من هذه الأرض وهذا المجتمع، وتقارب بعمق فلسفي ورؤية متجددة قضايا شديدة التعقيد، كالهوية والأمة والدولة والوطن والمجتمع، وتقدّم أجوبة تزداد إشراقاً مع كل ما تحمله التطورات، وبدلاً من أن تذبل الأفكار ونسمع الدعوة إلى الحاجة لتجديدها بما يجعلها قادرة على مواجهة المتغيرات، أسوة بما يحدث مع كثير من الفلسفات التي يعترف أصحابها بأنها شاخت مع الزمن، أو صارت تحاكي الواقع بلغة ماضوية غير قابلة للتطبيق، يكتشف كل من يقارب نظريات سعاده وفلسفته وأفكاره وأطروحاته ومقارباته، أن سعاده قبل قرابة مئة عام لا يزال يحاكي متغيرات قرن، بل إن ما كان غامضاً في زمانه صار أشد وضوحاً في زماننا، لجهة الحاجة الملحة والضرورية لاعتماد مقارباته. وهذا صحيح في النظرة لكيان الاحتلال كمصدر للخطر على الأمن الوطني لكل كيانات المنطقة، وشرارة صالحة لإشعال الحروب في كل لحظة، كما هو صحيح في تظهير حجم الترابط بين مصير كل من كيانات المشرق بالكيانات الأخرى مهما كانت ذائقة الاستقلال مغرية، كما هو صحيح في إثبات خطورة العصبيات الطائفية ودورها التدميريّ لمجتمعاتنا، كما هو أشدّ صحة لجهة الحاجة الى دولة قاعدتها المواطنة، وأكثر صحة لجهة الحاجة للجمع بين اقتصاد الدولة الاستراتيجي واقتصاد القطاع الخاص الإنتاجي والإبداعي، في ظل مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية.
– ما يحضر في هذه المناسبة اليوم في زمن الإحباط العام الذي يسود شرائح واسعة من مجتمعاتنا، تحت وطأة ما فعلته الحروب والمآسي وما تسبّب به الحصار الظالم، حتى بات الناس أسرى لقمة عيشهم بالحد الأدنى، يعوزهم السكن والدفء ويحلمون بالكهرباء والتعليم والاستشفاء، هو ما قدّمه لنا نموذج سعاده الشخص، الذي كان مجرد فرد شاب في مقتبل العمر، لا يملك رصيد زعامة عائلية، أو رصيد مال وافر، أو رصيد دعم دولة عظمى في الإقليم او العالم، وتلك كانت مرتكزات أي تفكير بالانصراف إلى العمل السياسي، فإلى ماذا استند هذا الشاب الذي انصرف سنوات يقرأ ويفكر ويكتب ويصيغ معادلاته العبقريّة، ليخوض مغامرة تأسيس حزب، ويهبه عمره وجهده، ويوظف لبنائه كل مواهبه وروحه؛ والمقصود أي ثقة كانت لديه بشعبه وأمته والطاقات الكامنة التي تحتاج الى من يفجّرها، وهو القائل «إن فيكم قوة لو فعلت لَغيّرت وجه التاريخ» ليفسّر لنا جوابه على هذا السؤال، الثقة بهذه القوة الكامنة التي تحتاج الى من يفجّرها لتفعل وتغيّر وجه التاريخ. وهذا ما تقوله سيرة الحزب مع سعاده، فخلال سنوات قليلة انتشرت عقيدة سعاده وتنامت فروع الحزب على مساحات البلاد بطولها وعرضها عابرة لحدود الكيانات والطوائف والطبقات تهتز أمامها الولاءات التقليدية العشائرية والقبلية والطائفية والمصلحية التي تستند الى تاريخ عميق، وصار الحزب الذي يدعو إليه سعاده ويقوده أحد أبرز اللاعبين على مساحة الإقليم، قبل أن ينتبه ثلاثي الدول الكبرى التي تملك مصالح حيوية في بلادنا، والحكومات التي اهتزت سطوتها أمام الحزب الجديد، وحماة كيان الاحتلال المغتصب لفلسطين، فيقتادون سعاده الى مصيره المحتوم شهيداً، وهو لا يأبه ويردد، أنا أموت لكن حزبي سوف ينتصر.
– الثقة التي رافقت سعاده من البداية حتى الشهادة، ثقته بالشعب وثقته بالحق وثقته بالنصر، هي ما نحتاجه اليوم في مواجهة الإحباط واليأس، فإن كان سعاده في تلك الظروف الصعبة التي حكمت كل العمل السياسي في ثلاثينيات القرن الماضي، قد امتلك هذه الثقة وهذا اليقين، ولم يكن من وسيلة للتبليغ والتثقيف والتواصل إلا اللقاءات المباشرة تعيقها الملاحقات الأمنية والمسافات المتباعدة، فما عذرنا نحن في زمن ثورة الاتصالات والمعلومات والتدفق الحيّ على مدار الساعة للأفكار، وسهولة النشر والتواصل والوصول، حتى يصحّ القول من أين يأتينا هذا الخمول، وهذا الركون، وهذا الخضوع، بمثل ما نسأل من أين جاء سعاده بهذا اليقين ومن أين جاء بهذه الثقة؟
– أهم ما يجب تعلمه من سعاده هو أننا نستطيع، وقد انتصر شباب من شعبنا على أعتى قوة في المنطقة والجيش الذي قيل إنه لا يُقهر، وها هو شعب فلسطين يقدّم كل يوم أمثولة في البطولة، وها هي سورية رغم الجراح تنتصر على حرب وحصار وزلزال، والحقيقة التي لا بدّ من أن نؤمن بها، هي أن ما لا يتحقق بالثقة أننا نستطيع، يتحقق بالمزيد من الثقة بأننا نستطيع.
2023-03-01 | عدد القراءات 806