ناصر قنديل
– أما وقد حل الثاني من آذار وغادر المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم مكتبه في المديرية التي تولى المركز الأول فيها اثنتي عشرة سنة، فمن الأفضل أن نفعل مثله ونطوي صفحة الجدل التي رافقت الحديث عن مخارج تتيح بقاءه على رأس عمله، خصوصاً أن كثيرين يحلو لهم اتخاذ القضية مجرد متراس لإطلاق النار على هوى خصوماتهم، وفق قاعدة، لا حباً بزيد بل كره بعمرو، وبخلفية السعي لدق الأسافين في علاقة اللواء إبراهيم بالقوى والقيادات التي أظهر في كلامه حرصاً على تاريخ طويل من رفقة الدرب والخدمة العامة معها، قطعاً للطريق على الاصطياد في مياه عكرة، أو مياه يُراد تعكيرها، لا فرق.
– الذين كانوا يتملقون اللواء إبراهيم وهو على رأس عمله سيغيبون عن المشهد، وقد كان معبراً إلزامياً لائقاً بلا كلفة للكثير من المواقع والأدوار، والذين يريدون الاستثمار في إظهار الحب للواء إبراهيم بهدف تحويله الى متراس لإطلاق النار على الجبهة التي يبقى اللواء ابراهيم احد اركانها، مهما تفاوتت الاجتهادات، سيكتشفون عقم رهانهم ومتانة موقع عباس إبراهيم في خياراته، وثبات مكانته عند الفاعلين في صناعة قرارها، ولو أن بعض العتب لا يُفسد في الودّ قضية.
– الأكيد أن اللواء إبراهيم لم يحقق ما حقق من المكانة، ولم يقم بما قام من أدوار، ولم ينجز ما أنجز من مهمات، لمجرد كونه المدير العام للأمن العام، والأكيد أن الموقع وفّر للواء إبراهيم صفة ومنصة وأدوات عمل، بما يتسع لحدود هامش كبير من المهام، خاطر وغامر اللواء إبراهيم باقتحامه، وتضيق لحدود تسيير الأعمال الإجرائية المعلومة والمهام الأمنية التقليدية. وقد رفض اللواء إبراهيم أن يرى فرصة الخدمة أمامه ويحجم عنها، أو فرصة المبادرة والتلكؤ في تحديها، أو فرصة حقن دماء والتقاعس عن مد اليد الى النيران الملتهبة خشية احتراقها، وقد تسنى لي أن أرافق مسيرته قبل هذا المنصب وبعد توليه، بما يتيح لي القول بثقة إنه هكذا كان قبل وهكذا بقي بعد، فارس مقدام، ذكاء وقاد، ذاكرة لا تخذل صاحبها، لياقة واحترام وتهذيب ودماثة، وتواضع ونظافة كف ونزاهة لا تقبل المساومة.
– هذا كله كان كافياً ليصنع من عباس إبراهيم مديراً ناجحاً في الأمن العام، لكنه لا يفسر الخصوصية التي استطاع إنتاجها، وجوهرها أنه معروف الهوية والهوى لدى القاصي والداني كمدافع شرس عن خيار المقاومة وعن مكانة سورية، لكنه نجح بنيل ثقة واحترام خصومهما في أشد اللحظات حرجاً. وهنا كفاءة استثنائية في العقل الاستخباري الذي تمتع به هذا الجنرال، فهو يستطيع أن يقنع خصم المقاومة وخصوم سورية بأنه يحتاج عباس إبراهيم الصديق للمقاومة وسورية، وإن لم يكن اليوم فغداً، وهو يضع في عقله خريطة طريق ليجعل لبنان على ضفة الربح في حصيلة المعادلة، وعندما تأتي اللحظة التي تظهر فيها عند هؤلاء فرصة التفكير والتحرك، كان يثبت لهم بنزاهة صحة رهانهم، فلا يعِد إلا بما يقدر، ولا يبني الأوهام والأحلام ولا يوحي بامتلاكه كل مفاتيح القضايا، لكنه يبذل كل جهده، وإذا وجد القضية فرصة لبناء الجسور لا يتردّد في منحها كل فرص النجاح، وعندما تتصل بأرواح بشر كان يعتبر النجاح في حمايتها وكشف مصائرها سبباً كافياً للمخاطرة، حتى ولو كان العائد السياسيّ شبه معدوم، لكن هذا بالضبط هو الذي تحوّل إلى رصيد سياسيّ أكبر من أي رصيد آخر، وقد شاهده العالم يتحرّك لإنقاذ رعايا دول لا تنتمي الى عالم الكبار، وقد لا يجمعه الزمان بقادتها مرة ثانية، وبدأت سيرة عباس إبراهيم تسابقه كلما ظهرت ملفات معقدة داخل لبنان وبين لبنان والخارج وبين دول قد لا تربطها بلبنان مشاكل ومصالح، ودول صديقة أو حليفة أو محبة للبنان، او لسورية أو للمقاومة، فيحمل رسالته الى حيث يجب، ويتقن فن عرضها وانتظار الرأي والتحفيز على القرار، ويملك الصبر للانتظار حتى يحين وقت القطاف، ويكتشف لاحقاً أنها صارت رصيداً لدى دول وجهات وصلت اليها الأصداء، فيستطيع تجييره للمساعدة بما يخص لبنان واللبنانيين.
– رغم الهوى والهوية نجح عباس إبراهيم بإبعاد كل التسييس عن معاملات المديرية العامة للأمن العام، فكل اللبنانيين سواء كما ينصّ دستور البلاد، كما نجح بإبعاد كأس الفساد المرّة عن معاملاتها، ونجح بأن يكون مصدر اطمئنان الفرقاء اللبنانيين في ذروة اختلافاتهم فيجيء إليه المختلفون طلباً للبحث عن حلول وتسويات، وعندما يفعلونها مرة لا يلبثون أن يعيدوا الكرة، وحافظ وهو يفعل ذلك على تراتبية مؤسسية، فلا شيء من خلف ظهر رؤسائه، ولا شيء من خلف ظهر الجمهورية، فقدم لنا الفرصة للقول إن فكرة الدولة حيّة وقابلة للحياة.
– أمثال عباس إبراهيم لا يتقاعدون ولا يتقاعسون، ولا يقال لهم وداعاً، بل دائماً الى اللقاء، والمهام تطلب الرجال الرجال، وهي ليست مناصب ولا صفات، ومهام كثيرة سوف تجد طريقها لتنادي الجنرال الجاهز دائماً للتحرك.
– شكراً عباس إبراهيم، والى اللقاء دائماً.
2023-03-02 | عدد القراءات 815