لماذا هذا الكتاب؟

ناصر قنديل

اليوم أتشرّف بلقاء الضيوف المشاركين في حفل توقيع كتابي “ثورة… مخاض أم متاهة؟”، الذي يقارب تاريخ لبنان منذ ولادته ككيان سياسي بعد إعلان الجنرال غورو لنشوء لبنان الكبير، من نافذة الأحداث الساخنة التي عبر بها لبنان في مرحلة ما بعد ثورة 17 تشرين الأول عام 2019 وظروف تشكيل واستقالة حكومة الرئيس حسان دياب، ومحاولة الإجابة عن سؤال، لماذا نغرق نحن كلبنانيين خلال مسيرة قرن بالمزيد من الأوحال، في المزيد من الطائفية والفساد واللادولة، بينما يفترض أمام حجم الاتساع في أعداد المتعلمين والناشطين لصالح فكرة دولة تحترم مواطنيها وتعاملهم وفق ما يقول دستورها، متساوين أمام القانون؛ ورغم أن الثورات والانتفاضات وظهور الأحزاب والتيارات التي تضع كلها في أنظمتها الأساسية أولوية بناء الدولة، نرى فكرة الدولة وواقعها ومؤسساتها الى تراجع؟
الهروب نحو إلقاء اللوم على خضوع لبنان لتأثير العوامل المحيطة والتدخلات الدولية والإقليمية، هو تجاهل لكون هذا التأثير يرتكز أصلاً الى أن اللبنانيين لم يكونوا يوماً في نظرة واحدة نحو أي خارج. فهم عند التأسيس عام 1920 انقسموا بين من يحتفلون بالانتداب وينخرطون في الدولة التي أنشأها، ومن يعلنون الانضمام الى الدولة السورية التي أعلنها الملك فيصل، وفق ما قرّرت مؤتمرات المحافظات الأربع، وينخرطون في أعمال المقاومة ضد الانتداب؛ وفي عام 1958 كان قسم من اللبنانيين في الحكم يدعو للانخراط في حلف بغداد الذي تقوده واشنطن ضد الحركة التي كان يقودها جمال عبد الناصر في المنطقة، ويرحبون بقدوم قوات المارينز الى شواطئ بيروت، وقسم آخر يهتف لعبد الناصر وينتظم لمقاتلة المارينز؛ وفي حرب عام 1975، كان الانقسام في النظرة حول الوجود الفلسطيني في لبنان بين من يراه تعبيراً عن تأييد حق الشعب الفلسطيني بحقه بالعودة والتحرير ومن يراه مجرد اعتداء على السيادة اللبنانية؛ وعند الاجتياح الإسرائيلي وما رافقه من حضور القوات المتعددة الجنسيات، كان بين اللبنانيين من يبني دولته تحت ظلال الاحتلال ومن يقرّر أولوية مقاومة هذا الاحتلال. وفي كل هذه الانقسامات لم تكن شبهة الانقسام الطائفي عليها مجرد تخيّل أو وهم.
الجوهري في ما يتوقف أمامه الكتاب هو أن الطوائف لا تزال هي الكيانات السياسية والاجتماعية، وربما الاقتصادية الأكثر فاعلية وحضوراً، وأن الدولة الوطنية والكيان الوطني في لبنان مشروع معلق، رغم جمالية النصوص السياسية التي تتحدث عن الوطن في أدبيات الأحزاب والتيارات السياسية. فالثابت هو أن مسار العلاقات العابرة للطوائف الى تراجع خلال القرن الذي يفصلنا عن ولادة الكيان اللبناني. فالأحزاب التي ولدت عابرة للطوائف هي تلك التي كانت الأوسع انتشاراً في الأربعينيات من القرن الماضي، كالحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي وحزب البعث والحزب التقدمي الاشتراكي وسواها، وأكثر ابتعاداً عن منشئها اللاطائفي، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كما تقول تجربة الحزب التقدمي الاشتراكي، أو أقل انتشاراً ونمواً وحضوراً، كما تقول تجارب الأحزاب التي حافظت على مسيرتها اللاطائفية، وها نحن اليوم أمام مشهد لا يستطيع أحد إنكار أنه ربما الأشد تعبيراً عن مشهدية لا طائفية، حتى أن التفاهم الذي ولد بين التيار الوطني الحر وحزب الله كجسر ربط متين بين شريحتين صاعدتين بين الطائفتين الإسلامية والمسيحية، يتعرّض لأزمة تهدّد قدرته على البقاء على قيد الحياة.
الانتقال بين الثورة النخبوية إلى المخاض والوصول الى المتاهة تجربة تتكرّر عندما كانت الثورات النخبوية صادقة وبقيادات رؤيوية نظيفة، وتتكرّر عندما أمسكت بآخر الثورات في 17 تشرين، قيادات أرادت أخذ لبنان عبرها إلى مجرد ساحة اختبار للمعادلات الدولية والإقليمية بوجه المقاومة. والكتاب يحاول الإجابة عن سؤال، هل يمكن الخروج من هذا السياق المغلق، سياق ثورة فمخاض فمتاهة؟ وكيف؟ وما هو موقع الدولة العميقة؟ ومم تتشكل؟ وما هي الثورة العميقة وكيف تعمل؟ وهل كانت اللحظة الافتراضية لتقاطع جوهر ثورة 17 تشرين قبل اغتصابها، مع حكومة الرئيس حسان دياب قبل تفجيرها فرصة ضائعة؟
آمل أن يكون الكتاب قد نجح بتقديم بعض الأجوبة على الأسئلة الصعبة التي يطرحها علينا همّ الوطن والاهتمام بالدولة. ومأزق الوطن والدولة والكيان سيتكفل دائماً بضخ المزيد من النخب التي تسعى إلى هذين الهدفين، وتطرح على نفسها هذه الأسئلة، أملاً بلحظة تتمكّن فيها هذه النخب من سلوك الطريق عكسياً، بتحويل المتاهة إلى مخاض والمخاض الى ثورة، بعدما عانينا طويلاً من تحوّل الثورة إلى مخاض والمخاض إلى متاهة.

2023-03-03 | عدد القراءات 1003