ناصر قنديل
يستطيع أي قارئ موضوعي منصف عايش عشية الحرب الأهلية ويتابع الأوضاع اليوم، أن يشهد بأن الخطاب السياسي الذي يشدد على العيش المشترك اليوم ليس إلا قشرة رقيقة تغطي لغة طائفية مقيتة تسكن وتعشعش في كل الزوايا والشوارع. فالكلام الوطني مجرد مقدّمة مرفقة بـ »لكن» كافية للتمهيد لاستعادة كل مفردات الحرب وليس ما كان عشية الحرب، فما كان في الخطاب عشية الحرب أقل طائفية من اليوم بما لا يُخفى على عاقل، والمقياس يبقى في نقطتين، الأولى في النظر لرموز الحرب وتفسير أسباب وقوعها، حيث يكفي أي نقاش لمعرفة أن رموز الحرب زادوا قدسية في شوارعهم الطائفية، وأن تحميل رموز الآخر الطائفي مسؤولية الحرب هو »التفسير الوطني الوحيد» الذي يملكه كل الأطراف، كل في شارعه لأسباب الحرب، وليس هناك فريق وازن يقول لقد أخطأنا لغير المجاملة، لأنه عندما يدخل في تفاصيل الحرب الأهلية يتبنى السردية التي قالها فريقه الطائفي خلال الحرب، أما النقطة الثانية للقياس فهي في قراءة الحياة السياسية الراهنة، وحجم حضور خطاب التميز والخصوصية في هذه القراءة. وهنا تكفي وفق علوم الألسنية اللغوية مقارنة حجم تكرار مفردات أسماء الطوائف في الخطاب السياسي للقادة والمقالات التي يكتبها أو المداخلات التي يقدمها الإعلاميون. فالحديث عن لا نستطيع العيش معاً اليوم أشد حضوراً من عشية الحرب، والحديث عن التميّز الطائفي والخصوصية الطائفية في كل زاوية.
المثقفون، أو مَن يطلبون بأن تتم تسميتهم كذلك، أو من تعاملهم شوارعهم الطائفية بصفتهم كذلك، بصفات ومواقع ومقامات رفيعة وغير رفيعة، يتداولون من مواقع طائفية ترّهات ثقافية تؤكد أن الجهل سيد الثقافة، والجهل أكبر مثقف سائد، فيجري الحديث مثلاً عن نسب التوزع الطائفي ويتقاتل اللبنانيون على الرقم، ويتجاهلون أن جوهر ما قام عليه اتفاق الطائف هو الشجاعة في الصراحة في الاعتراف بالحاجة للانطلاق من حقيقة أن المسار التنازلي لعدد المسيحيين لا سبيل لوقفه وأن الفوارق التصاعدية بين نسب المسلمين والمسيحيين الى اتساع، ولذلك اتفقوا على أن لا قيمة للبنان بلا مسيحييه وبلا موقع ضامن لهم في مشهده السياسي لا علاقة له بالنسب العددية، فقرروا الحفاظ على المناصفة وعلى طائفية الرئاسات، مقابل إلغاء حقيقيّ لمفاعيل طابعها الطائفي الإجرائي حفاظاً على وظيفتها التأسيسية التطيمينة، فتصير السلطة الإجرائية في مجلس الوزراء، وينتخب رئيس الجمهورية بنصاب الثلثين ضماناً للشراكة الاسلامية المسيحية في اختيار الممثل المسيحي الأكثر قدرة على طمأنة المسلمين، وأن يشترك المسلمون والمسيحيون في انتخاب النواب ضمن دوائر تراعي معيار العيش المشترك، وبالزعم الثقافي ذاته اليوم يتناقش اللبنانيون حول الفدرالية ويتناسون أن جوهر النظام الفدرالي بأعلى سقوفه مطبّق في لبنان، حيث النواب موزعون طائفياً، وكذلك الوظائف العليا في الدولة، والأحوال الشخصيّة بيد الطوائف ومرجعياتها ومحاكمها، والجامعات والمؤسسات التربوية والصحية والإعلامية والكشفية العائدة للطوائف هي الأقوى، ويتجاهلون أن أي إضافة مستحيلة لأن الذهاب الى فدرالية التقسيم الجغرافي لا تتناسب مع خريطة التوزيع الطائفي، وأن اتفاق الطائف ناقش طويلاً كل هذه الفرضيات وصولاً الى سلة إصلاحية تتمثل بمجلس نيابي لا طائفي ومجلس طائفي للشيوخ ولامركزية إدارية على مستوى الوحدات الادارية الصغرى التي يمثلها القضاء، وبزخم ثقافي إبداعي يدخل المال على النقاش فيتناقش اللبنانيون في مَن منهم يقوم بتمويل الدولة ومن يتنعم منهم أكثر بعائداتها، ويتجاهلون أن أغلب عائدات الدولة تأتي من موارد لا تتم جبايتها مناطقياً، وأن 80% من موارد الدولة تأتي من عائدات الجمارك والضريبة على القيمة المضافة وعائدات الهاتف وكلها ترتبط باللبنانيين كأفراد، يدفعونها جميعاً مثل الشاطرين وبنسبهم العددية التي يتقاتلون عليها، لكن ما يدفعونه يسرق منهم وهم مثل الأرانب، وتموّل سياساتهم المالية من ودائعهم وهم غافلون، وتحوّل أموالهم إلى الخارج وهم يبتسمون كالحمقى، ويتقاتلون أن طوائف في لبنان تمول الدولة وطوائف أخرى تستهلك أموالها، ويأتون بمثال الكهرباء التي بمجموع ما تجبيه وما لا تجبيه لا تغطي الجزء البسيط من كلفتها، بسبب تعرفة الرشوة التي طبقت عليها، بينما اللبنانيون مثل الشاطرين يدفعون لأصحاب المولدات ما يقارب 7 مليارات دولار سنوياً، وهم يتقاتلون مَن يموّل الدولة، ولا ينبسون ببنت شفة، عن الدولة الرديفة التي يمولونها، والمشكلة أنهم يتسابقون رغم كل هذا الجهل في مَن منهم يمثل الذكاء اللبناني الفطري والعبقرية اللبنانية التي تصنع المعجزات!
الذي يمنع الحرب هو أن العناصر التي صنعتها تغيّرت، ومخطئ مَن يعتقد أن هناك إمكانية لحرب تستمرّ أكثر من أسبوع دون تمويل، وها هي أوكرانيا الدولة الغنية والقوية تعجز عن المضي قدماً لسنة واحدة دون تمويل أرهق كل الغرب، وها هي سورية حليفة روسيا وإيران تئن تحت وطأة كلفة الحرب، وها هي كردستان العراق المستقلة جغرافياً وسكانياً وهي تملك مقدرات نفطية كبيرة، وليس مثلها في الجغرافيا والديمغرافيا والموارد لأي من الطوائف اللبنانية، تقرّر التخلي عن حلم الاستقلال، لأن كلفته كانت حرباً لا تستطيع تحمل تبعاتها، وكل السردية عن الأسباب الداخلية والاتهامات المتبادلة بالأخطاء التي أنتجت مناخ الحرب لا قيمة له، لأن اللبنانيين صنعوا مناخ الحرب من جهة وكانوا وقودها من جهة مقابلة، وتوهّموا أنهم يخوضونها لحساب برامجهم المحلية طائفية كانت أم وطنية، لكن لو لم تتوافر بيئة دوليّة إقليمية تجد للحرب وظيفة جوهرية في سياق مشاريع متقابلة في النظر إلى توازنات المنطقة وصراعاتها، لبقي اللبنانيون يتبادلون الاتهامات وربما شدّ الشعر في مجلس النواب، ولكن ما كانت الحرب لتقع، وإن وقعت أحداث أمنية ما كانت لتستمر أكثر من ساعات وفي أسوأ الأحوال أياماً، والفارق بين الماضي والحاضر ليس لبنانياً، وإن وجد فهو للأسوأ، الفارق إقليمي ودولي، المنطقة والعالم يشهدان تسارعاً في التأقلم مع آسيا جديدة ومتوسط جديد، تحت عنوان الاستقلال الاستراتيجي الذي يتحدّث عنه التركي والسعودي والفرنسي ويلاقون الصيني والإيراني والروسي على اساسه، في ظل تراجع اميركي غير قابل للإنكار، بالتزامن مع صعود مناخ عربي اسلامي عنوانه القدس وفلسطين، ومحوره المقاومة، وسوف يظهر اليوم في إحياءات يوم القدس، مقابل تراجع غير مسبوق على كل الاصعدة السياسية والديمغرافية والاستراتيجية والعسكرية في وضع »اسرائيل»، بينما كانت الحرب الأهلية فرصة للاستثمار على الأوهام الكثيرة على ضفاف الانقسام اللبناني، لمرحلة كان عنوانها كامب ديفيد، تغطيته وتبريره وتمريره ثم استثماره وتوظيفه، وصولاً الى محاولة تعميمه، وعندما ثبت الفشل بدأت الاستدارة عامي 1984 و1985 مع الانسحابات الاسرائيلية والاميركية الكبرى، وبقيت الحرب لبنانية منذ ذلك التاريخ، حتى جاء اتفاق الطائف يحاول ملاقاة المتغيرات وصناعة قواعد نظام طائفي متصالح معها، يهتز كلما اهتزت مرتكزاتها الداخلية او الاقليمية والدولية.
لذلك نحن اليوم لا نخشى من الحرب ليس لأننا تعلمنا الدرس، بل لأن لا أحد مستعدّ أن يشتري رغم عروض البيع، لسنا في خطر الحرب لكن السلم الأهلي ليس بخير، ومن موقعي وتاريخي كواحد من الذين حلموا بالتغيير الثوري خلال الحرب، افترضوا أن هناك فرصة لتحوّلات وطنية كبرى في ظل الانقسام الطائفي، اعترف أن أكثر القادة بيننا فهماً وحكمة وشجاعة كان الإمام موسى الصدر الذي خالفناه رفضه المشاركة فيها واعتصامه طلباً لإنهائها، وكنا جميعاً، جميع من شاركوا فيها ونظَروا لها ولا زال بعضهم ينظِر لخطابها ويلقي باللائمة على الآخر، نلقي عليه آثامنا واتهاماتنا، باعتبارنا الأفهم والأعقل، لنكتشف متأخرين أنه أفهمنا وأعقلنا وأكثرنا وطنية، بإدراك مصلحة الوطن وامتلاك الشجاعة للسعي إليها بالسباحة عكس التيار، وهو يدرك مخاطر ما يفعل فيفقد موج مئات الآلاف الذين رافقوه لسنوات ويراهم يلتحقون بالأحزاب والتشكيلات التي خاضت الحرب، وينتهي الأمر بإخفائه.
2023-04-14 | عدد القراءات 652