هكذا حكمت الخلافات والتفاهمات بين دمشق والرياض السقفين العربي واللبناني نقاط على الحروف ناصر قنديل

هكذا حكمت الخلافات والتفاهمات بين دمشق والرياض السقفين العربي والللبناني

نقاط على الحروف

ناصر قنديل

- منذ زمن طويل أعقب كامب ديفيد وخروج من مصر من الجامعة العربية، صارت الثنائية السورية السعودية ترسم سقف الموقف العربي، وجاء اتفاق الطائف لإنهاء الحرب في لبنان واحدة من ترجمات معادلة تقول ان التفاهم السوري السعودي أهم من الجامعة العربية، ورغم عودة مصر إلى الجامعة، لم تتحول الجامعة إلى سقف للموقف العربي، حتى يمكن القول أن المبادرة العربية للسلام التي أطلقتها قمة بيروت عام 2002 لم تكن إلا ثمرة تفاهم سوري سعودي صنع خارج الجامعة، وذلك لا يعود لأن سورية والسعودية أكبر بلدين عربيين،  بل يعود ببساطة إلى أن المواقف العربية تتدرج بين موقعين عربيين، موقع الانضباط بالسقف الأميركي، وموقع المواجهة مع المشروع الأميركي، وكان ما تتفق عليه سورية والسعودية وحده قادرا على تشكيل السقف الجامع للمواقف العربية.

- عندما انهار الاتحاد السوفياتي، وتفردت واشنطن بالمشهد الدولي، كانت سنوات إعادة صياغة المشهد الأوروبي بين عامي 1990 و2000 ، عبر حرب يوغوسلافيا من جهة، وتوسيع الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو الى حدود روسيا من جهة موازية، فرصة لاختبار إمكانية احتواء سورية عبر مشروع مؤتمر مدريد الذي انتهى بالفشل بعد قمة الرئيسين الأميركي بيل كلينتون، والسوري الراحل الكبير حافظ الأسد، في نيسان 2000 في قمة جنيف، لتبدأ الاستدارة نحو إعادة صياغة آسيا مع بداية 2001 مع المحافظين الجدد، وجوهرها، عزل روسيا و الصين وترويض إيران وسورية، ومعهما قوى المقاومة، وهنا كان طبيعيا أن تتغير بيئة الموقف العربي، وقد بدأت ملامح انهيار السقف العربي الذي بلغ مداه عبر لبنان، مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري وحرب تموز 2006، وانكسار التفاهم السوري السعودي.

- في العقد الثاني من القرن الجديد، كان بدء الصعود الروسي والصيني، وفشل الحروب الأميركية، وظهور التوازنات الإقليمية الهشة، وكانت فسحة اختبار لتفاهمات تملأ الفراغ الاستراتيجي وتعبر بالمنطقة من العواصف القادمة ، وطرح خلالها الرئيس السوري بشار الأسد مشروعه للتشبيك بين الدول الفاعلة في البحار الخمسة، المتوسط والأسود والأحمر و قزوين والخليج، ليكون الرد بالحرب على سورية، وتعبر أسوا المراحل العربية، مع تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية تعبيرا عن انكسار التفاهم السوري السعودي نهائيا، واعلانا لحرب تغيير سورية، تغيير موقعها الإقليمي واذا استعصى تغيير نظامها وإذا استعصى تغيير شكلها ككيان سياسي وصولا للاستعداد لتغيير شكل وحدتها الجغرافية، وكان لابد لهذا الاختبار أن يأخذ مداه كمختبر التوازنات الدولية والإقليمية الجديدة، قبل أن تتبلور صورة المشهد العربي الجديد، على خلفية توازنات دولية وإقليمية جديدة.

- دخل العالم العقد الثالث من القرن الجديد، مع حرب روسيا في أوكرانيا، والانسحاب الأميركي من أفغانستان، كإشارة على نوعية التوازنات الجديدة التي تتشكل، ودخلت المنطقة العقد الثالث مع مساعي تركيا لإكمال التموضع في حرب سورية على ضفة الحلول السياسية والتسويات، من بوابة مساعي المصالحة مع الدولة السورية، وترسيم الحدود اللبنانية البحرية الجنوبية على إيقاع تهديد المقاومة بالحرب، و ظهور معادلة سيف القدس ووحدة الساحات في فلسطين المحتلة، وتثبيت أنصار الله في اليمن لمعادلة الإمساك بأمن الطاقة برا وبحرا، وجاء الاتفاق السعودي الايراني الصيني ترجمة لهذه التحولات، ليجسد موقعا جديدا للسعودية في الإقليم والسياسة الدولية، يترجم النظرة السعودية الجديدة لمكانة كل من واشنطن وموسكو وبكين في العلاقات الدولية، ويستعيد ما سعى إليه الرئيس الأسد من تشبيك البحار الخمسة في مصالح الأمن والإقتصاد، إطارا لنظام إقليمي جديد تكون روسيا وإيران ضمنه والصين أحد رعاته، وتركيا ومصر وحكما سورية في قلبه، وفي هذا السياق تأتي العودة السعودية الى سورية، ليفتح من جديد الأفق لبناء سقف جديد للموقف العربي.

- كانت قمة بيروت العربية في ربيع عام 2002 آخر مراحل التقاطع الجدي بين دمشق والرياض حيث ولدت المبادرة العربية للسلام، وكانت قمة شرم الشيخ في خريف العام نفسه لحظة الافتراق المديد بين العاصمتين حيث ولد الغطاء العربي للحرب الأميركية على العراق في ظل صوت سوري صارخ بالرفض والتحذير، وعلى خلفية هذين الموقفين المتعارضين تجاه قرار الحرب الأميركية على العراق، استمر الافتراق حتى بلغت المنطقة مرحلة الاستقلال الاستراتيجي الذي اعتبرته بكين إطار التفاهم الذي رعته بين السعودية وإيران، والتفاهم السوري السعودي يقدم إطار الاستقلال الاستراتيجي العربي، الذي لم تكتمل ملامحه بعد، والذي تفضل سورية استعادة مقعدها في الجامعة عند اكتماله، كما تفضل بذل الجهد على تطوير السقف السوري السعودي لرسم سياسة عربية جديدة، يكون للجامعة معها نكهة تناسب المرحلة الجديدة التي تشارك سورية في صناعتها.

- لبنان، كما كان مسرح الأحداث الكبرى بين عامي 1982 و 1988، كان  أول من تلقى ثمار التفاهم السوري السعودي عام 1988، كترجمة لسقوط الرهانات الأميركية على عائدات حرب الإخوان المسلمين على سورية بين عامي 1980 و1988، وهي عشر عجاف شهدت الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 ، وكانت السعودية على ضفة الحسابات الأميركية في المنطقة ومن ضمنها النظرة نحو سورية، وقد ترجمتها مبادرة السلام التي أطلقها ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبدالعزيز في قمة فاس كترجمة لنتائج غزو لبنان، وقد عارضتها سورية بشدة وحالت دون تبنيها، كما عارضت ما تضمنته القمة من تغطية لمفاوضات اتفاق 17 أيار التي خاضها الرئيس اللبناني أمين الجميل، بينما كانت سورية تقدم كل الدعم للمقاومة في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي، وجاء العام 1988 مدخلا لتفاهم سوري سعودي يرسم سقفا عربيا جديدا، عنوانه سقوط الاستثمار على نتائج الغزو الاسرائيلي للبنان وتكريس سورية رقما صعبا في أي صيغة سياسية لنظام إقليمي جديد، وجدت ترجمتها في صيغة مدريد لمفاوضات السلام، وإطار حرب الخليج لتحرير الكويت، و امتدت لعشر سنوات، انتهت في العام 2000، مع تحرير جنوب لبنان والسقوط النهائي لصيغة مدريد، وكانت حصة لبنان اتفاق الطائف الذي ارسى ركائز السلم الأهلي فيه، واعادة تشكيل مؤسساته الدستورية من الرئاسة والمجلس النيابي والحكومة وصولا للجيش.

- هذه المرة تقف المنطقة على أبواب متغيرات، أشد عمقا من تلك التي شهدتها عام 1988، جوهرها أن التلاقي السوي السعودي هذه المرة يتم من موقعين متقاربين في النظرة للأدوار والأحجام الدولية، في قلبها نظرات متقاربة لروسيا والصين وأميركا وأوروبا، ونظرات تحتمل ادارة الخلاف بينها لأدوار تركيا وايران واسرائيل"، بعكس المرة السابقة، بينما لبنان في لحظة انهيار أشد قسوة من تلك التي كان عليها عام 1988، وأكثر حاجة لرافعة إقليمية لتجاوز أزمة تفكك الكيان والدولة، ويمكن للبنان أن يقطف أفضل ثمار التفاهمات الجديدة، شرط  ادراك ان المنطقة ومنها لبنان في زمن الاستقلال الاستراتيجي، وزمن مصادر وممرات الطاقة، حيث لبنان لاعب لا ملعب، بفضل وبفعل قوة مقاومته ليس إلا.

2023-04-19 | عدد القراءات 1331