ناصر قنديل
– بعيداً عن أطروحات الاستفزاز والمزايدة النابعة من حسابات فئوية ضيقة ومواقف حاقدة أو شعور بعقدة النقص، قدّمت حرب غزة التي اندلعت بعد العملية التاريخية «طوفان الأقصى»، مشهداً فريداً على مستوى المنطقة وتاريخها، لم تشهد المنطقة مثيلاً له منذ حرب عام 1973، حيث كانت في اليوم نفسه وعلى مدى أيام متصلة، تخاض معارك متعددة من قوى مختلفة، ترسم معادلة الأمن القومي، حيث تلتقي كل قوى المقاومة في فلسطين في غزة والضفة الغربية لتضرب بقوة وقسوة على جيش الاحتلال، فتحصد في يوم واحد وبصورة منتظمة أكثر من خمسة قتلى وخمس آليات كل يوم. وتحاكيها على جبهة جنوب لبنان عمليات نوعية مكثفة متصاعدة للمقاومة اللبنانية تدمّر مواقع وتحصينات وآليات وأعصاب جيش الاحتلال ومستوطنيه، وتحصد كل يوم عدداً إضافياً بين قتيل وجريح، بينما تجدّد المقاومة العراقية يومياً ضرباتها على القواعد الأميركية للتأكيد على اعتبار المعركة مع الاحتلال لا تنفصل عن مواجهة الهيمنة الأميركية. وتقوم قوات الجيش اليمني بقيادة أنصار الله بتثبيت مقولة إن الأمن والتجارة العالمية بما فيه أمن الطاقة يتربط عضوياً بأمن الشعب الفلسطيني، عبر توظيف الممرات المائية الاستراتيجية كأسلحة قابلة للاستخدام في هذه الحرب.
– في حرب عام 1973 اجتمع الجيشان السوري والمصري مع النفط العربي، فكان انتصار بدّدته ألاعيب السياسة والولاءات الخارجية على حساب مفهوم الأمن القومي. بينما هذه المرة نشهد تجليات مفهوم الأمن القومي، بجمع غير مسبوق بين المعركة مع الاحتلال من الجبهات المتعددة من جهة، وبين المعركة مع الاحتلال ومع الهيمنة الأميركية من جهة ثانية، ونشهد زجاً بأسلحة تكسر معادلات تقليدية للأمن الإقليمي، لحساب مفهوم الأمن القومي، ويجري ذلك على أيدي حركات شعبية مقاومة بطريقة تحاكي مزاجاً شعبياً يدعو للمزيد، من دون الانخراط من باب المزايدة أو الاستفزاز، في اي معركة جانبية مع الأنظمة الحاكمة، رغم تخاذل الأنظمة وتخليها عن مسؤولياتها، سواء في نصرة الشعب الفلسطيني، أو في ترجمة ما تزعمه من تمسك بمفهوم للأمن القومي، لم تخجل من شطب تحدّي الاحتلال والهيمنة الأميركية من مفرداته فقط، بل ذهبت الى اتهام حركات المقاومة بإلحاق الأذى به، ورغم ذلك تنجح حركات المقاومة بالتعالي على جراحها وتحييد المواجهة مع هذه الأنظمة من معركتها.
– تنتقل حركات المقاومة بسلاسة وهدوء من مرحلة إلى مرحلة من المواجهة بعيداً عن الخطابية ولغة الشعارات، ولا تصدر بلاغاً عن إنجازاتها الا مرفقا بشاهد مصوّر غير قابل للإنكار، وتنفذ حركات المقاومة ما يبدو أنه جدول أعمال مدروس بدقة وإتقان، وضمن توزيع دقيق للمسؤوليات، لا يؤثر فيه كل مناخ المزايدات التافهة الذي يجري خارج غرف العمليات. وتبدو الثقة بين حركات المقاومة قد بلغت حد الاعتقاد أنها باتت حركة واحدة، وتبدو وحدها الأمل في إفشال خطط الاحتلال، والردّ على مجازره الدموية، في ظل عجز رسمي عربي يصل حد المؤامرة، وتبنٍّ غربي للمذبحة باعتبارها دفاعاً مشروعاً عن النفس، فيصل الاحتلال ومن خلفه الغرب الحاكم كله، الى التيقن من الفشل، فيقبل التسليم بمعادلة قوامها، وقف القتال وتبادل الأسرى، بعدما كان الشعار حرباً حتى اجتثاث المقاومة واستعادة الرهائن دون مقابل ودون تفاوض.
– المنطقة تعيش أياماً تاريخية تحمل معها صورة الإنجاز المذيل بتوقيع حركات المقاومة، بإسقاط أهداف العدوان، ومن خلفه كل الدعم الغربي، وإجبار المعتدين معاً على التسليم بأن هناك موازين قوى جديدة تحكم معادلات الأمن الإقليمي، جوهرها مفهوم الأمن القومي الجديد.
2023-11-21 | عدد القراءات 233