تقدير موقف قبيل اليوم الـ 100 من الحرب
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
- لا تستطيع أميركا و"إسرائيل" التحدث عن مقاربات استراتيجية للحروب التي تدخلانها منذ طوفان الأقصى وبسببه، فقد بات أكيدا أنهما فوجئتا بالطوفان، كما بات أكيدا أن رؤية وحسابات واستراتيجيات كل منهما كانت مبنية على العكس، فالقيادات السياسية والعسكرية والأمنية في كيان الإحتلال تعترف بأنها بنت حساباتها على تهدئة مديدة مع غزة ومع حركة حماس بوجه الخصوص، والقيادة الأميركية بنت حساباتها على انها نجحت بتحييد الشرق الأوسط وتوفير بيئة استقرار فيه للتفرغ لمواجهتها مع روسيا والصين، ومثلما تقاطعت التقارير الاستراتيجية السنوية لأجهزة الأمن في الكيان ومعاهد دراسات الأمن القومي التي صدرت في الثلث الأول من العام الماضي عند نقطة محورها توصيف المخاطر من ايران وجبهة لبنان وتأكيد قواعد الاحتواء الفعالة لوضع غزة، كان ما قاله مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان في المقال الفضيحة الذي نشره وقام باسترداده لشطب عدد من الجمل فيه، والذي كتبه لمجلة فورين أفيرز قبل أيام من طوفان الأقصى وتوقع فيه المزيد من الهدوء في ملفات الشرق الأوسط والتفرغ لملفات روسيا والصين، معيدا ذلك إلى "عبقرية الرئيس جو بايدن"، ونجاحه بوضع مفاوضات التطبيع بين السعودية و"إسرائيل" بعد مقترح خط الهند التجاري في مرتبة متقدمة.
- عند وقوع طوفان الأقصى، احتاجت أميركا و"إسرائيل" الى يومين عمليا لالتقاط الأنفاس، ودخلتا الحرب على غزة تحت عناوين توحي بالارتجال، والاحتكام للانفعال والغضب، بدلا من الحسابات، وولد شعار اجتثاث حركة حماس من روح الانتقام والحاجة لشعار شعبوي يرضي العطش للدماء، لشد العصب في جمهور محبط جاهز لتغذية خطاب الحرب في حدها الأقصى تعبيرا عن الروح العنصرية والحاجة للدفاع عن الشعور بالتفوق، وتحولت اميركا العقلانية والبراغماتية بسبب العمى العقائدي لرئيسها واركان ادارته، الذين لم يستطيعوا وهم يعلنون مشاعر التضامن أنهم يتصرفون باعتبارهم صهاينة وليس كقادة دولة عظمى بنت عظمتها على دقة الحسابات، الى مجرد صدى لصيحات الحرب بلا حسابات ودون تدقيق بالموازين.
- اتصفت الحملة العسكرية على غزة بالعشوائية، وشكلت أيام القصف التمهيدي التي يفترض أن تكون مجرد ساعات في حالة حرب عادية، علامة على أولوية الانتقام وقتل اكبر عدد من الفلسطينيين وتدمير أكبر نسبة من مساكنهم ومؤسساتهم على حساب العمل للفوز بالحرب، وجاء القبول بالهدنة وتبادل الأسرى يكشف غياب الاستراتيجية حتى بعد قرار دخول حرب بمثل هذه الشعارات العالية السقف، وعندما بدأت الحملة البرية تبين أن الجيش يخوضها بثقافة وسلوك غزواته في الضفة الغربية، حيث لا وجود للأنفاق ولا وجود للأبنية المفخخة والقذائف الصاروخية المضادة للدروع والقناصات، وقد وقعت أولية النخبة التي كانت تتولى قمع فلسطينيي الضفة الغربية في أفخاخ قاتلة كان مصدرها غياب السلوك العسكري المحترف في حالات التعامل مع الأنفاق والدخول إلى الأبنية، وظهر الجيش في أشد حالاته اهتراء وبعدا عن الأداء الاحترافي، وتسبب الإرهاق الناجم عن طول مدة الحرب دون نتائج، وكمية الخسائر الهائلة التي لحقت بالقوام البشري للألوية والكتائب، بتكفل ثلاثة شهور من الحرب بإعلان فشل كامل للجيش، ودخول الحرب في مأزق قاتل يؤكد نهايته الحتمية بالفشل.
- الحركة الأميركية كانت أقرب إلى الصبيانية، فقد حشدت واشنطن حاملات الطائرات ورافقتها بتصريحات وتحذيرات وتهديدات، وكأنها بلا ذاكرة، وتوهمت بسبب التضامن الانفعالي مع "إسرائيل" والرغبة بمنحها الشعور بالقوة، أن هذه الحركة الاستعراضية سوف تردع قوى المقاومة عن فتح جبهات المساندة لغزة، وعندما اكتشفت العكس لم تقم باعادة حساباتها بل واصلت التخبط، فبدأت بارسال الرسائل حول سعيها للتهدئة وطلبت التعاون معها بعدم التصعيد، وعندما وصلتها الأجوبة، ترسلون وعودا فنعطيكم مثلها وعودا، وتقومون بأفعال فنقابلها بأفعال، ارتبكت، فهي لا تريد حربا في سورية والعراق ولا تريد مواجهة في البحر الأحمر، لكنها لا تستطيع تقبل خروج "إسرائيل" مهزومة، و اهتز كيانها عندما دخل أنصار الله على خط تقييد حرية الملاحة المتجهة الى موانئ كيان الاحتلال، باعتباره اصابة مباشرة للمهابة وقوة الردع الأمريكية، ونظرية الإمساك بالممرات المائية الحيوية، والتي يشكل البحر الأحمر أحد أهمها إن لم يكن أهمها على الإطلاق.
- جاءت الغارات الأميركية والبريطانية على اليمن، ترجمة لهذا الإرتباك، لا نريد التصعيد ولا نتحمل التحدي، ولا نستطيع قبول هزيمة "إسرائيل"، وهم ينتظرون مساعدة أعدائهم لهم على حفظ ماء الوجه، فكان الجواب، لا نريد التصعيد ولا نتحمل التحدي ولكننا لا نقبل هزيمة المقاومة في غزة، وفي الشهور التي مضت من الحرب كانت أميركا تعاني وجود فوارق كبيرة بين ما تعلنه من أهداف وما تملكه من أدوات، وفوارق كبيرة بين ما تعلنه لحفظ المعنويات وما ترسله في الوساطات، وبين ما تقوله عن فعالية عملياتها العسكرية وما تفعله قواتها، وما يقوله الواقع عن ذلك، لكن واشنطن عالقة في قلب حرب بلا استراتيجية خروج، وبلا تكتيكات تصاعدية، أو تراجعية، والمياومة سمة الموقف، والتورط يخلق بيئة المزيد من التورط.
- على مستوى محور المقاومة كان الوضوح منذ البداية بعدم الاستعداد للسير بحرب ما بعد الطوفان إلى الأقصى بصفتها الحرب الكبرى، في كلام صريح للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لم يعجب كثيرين، وحددت أهداف واقعية للمساندة، وهي منع هزيمة المقاومة، وبدأ التأقلم مع المناخ الجديد بعد الطوفان والاستعداد لرفع مستوى التحدي بالتزامن مع انحدار وتراجع قدرة "إسرائيل" على خوض الحرب، وممارسة الضغوط المحسوبة على الأميركي لدفعه الى مراجعة عاقلة للحسابات، وفتح الباب للتراجع، واليوم يبدو محور المقاومة جاهزا لمراحل أعلى من المواجهة مع الأميركي والإسرائيلي وقد حدد أهدافا بحجم فرض الانسحاب الأميركي من سورية والعراق، وتكريس مكانة اليمن كلاعب إقليمي صاحب دور في أمن البحر الأحمر والملاحة الدولية، وأمن الطاقة، والملعب ملعب شعوب المنطقة، وعنوان نصرة فلسطين جاذب، والجاهزية عالية، والرؤية واضحة، ربح بالنقاط لا بالضربة القاضية، لكن النقاط يمكن أن تتسع وتضيق وفقا لموازين القوى والفرص المتاحة.
- قدمت تل أبيب وواشنطن لمحور المقاومة فرص ربح وازن بالنقاط، وهما تخوضان الحرب دون أهداف قابلة للتحقيق، وتحت شعارات تلاقي الغضب الذي بدأ بالزوال و حل مكانه الشعور بفقدان الثقة بتوافر الأمن، وتستمران بالحرب ليس لأنهما تملكان لها رؤية بل لأنهما لا تملكان رؤية لوقفها، بينما محور المقاومة يخوض الحرب بشعارات منخفضة السقوف، وبقوى لا تزال بكامل حيويتها، ويخوض حربا دفاعية لكن بروح هجومية، مقابل أعداء يخوضون حربا هجومية لكن بروح دفاعية، وما سوف يقدمه البحر الأحمر والعراق كثير وكبير في رسم توازنات جديدة في المنطقة.
2024-01-13 | عدد القراءات 54