إيران والرسائل المشفرة المتعددة
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
- بالرغم من حصر الحرس الثوري الإيراني لأهداف ضرباته الصاروخية الموزعة بين سورية والعراق وباكستان، بالرد على العمليات الإرهابية التي استهدفت إيران وأدت الى استشهاد العشرات من المشاركين في ذكرى استشهاد القائد قاسم سليماني، وبالمقابل الإصرار الأميركي الموازي في بيانات البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية على حصر وظيفة الضربات التي استهدفت أنصار الله بالتعاون مع القوات البريطانية، بضمان الملاحة الدولية الحرة في البحر الأحمر، التي قال أنصار الله أنهم لن يسمحوا للسفن الإسرائيلية و السفن المتجهة الى موانئ كيان الإحتلال، من التمتع بها في البحر الأحمر ما لم يتوقف العدوان على غزة، إلا أن الأكيد أن توقيت التحرك الأميركي والتحرك الإيراني يرتبطان بصورة وثيقة أحدهما بالآخر من جهة، وبما يجري في غزة من جهة مقابلة.
- منذ طوفان الأقصى دخلت المنطقة مرحلة السيولة الاستراتيجية، أي سقوط الضوابط وقواعد الاشتباك، والسعي المحموم تحت سقف تفادي الحرب الكبرى، لرسم قواعد اشتباك جديدة ديناميكية متحركة تتلاءم مع مستجدات الحرب، وكانت أميركا وإيران، كل يتربص بالآخر ويريده أن يبدأ لتكون للثاني الكلمة الأخيرة، وبدأ الأميركي أول محاولة فاشلة عندما جاء بحاملات الطائرات مرفقة بتصريحات عالية السقف عن التهديد لكل من يحاول فتح جبهات جديدة توسع نطاق معركة غزة، التي أراد للإسرائيلي أن يستفرد خلالها بغزة ومقاومتها وشعبها، فإكتفت إيران بالتحذير من أن التصعيد والتهدئة يبدآن من غزة، وأن كل محاولة بخلاف ذلك محكوم عليها بالفشل، وتكفل حزب الله بفتح الجبهة الأولى في اليوم التالي للطوفان متحديا التهديدات الأميركية، معلنا أنه لا يقيم لها حسابا، كما قال قادته، وصولا لإطلالة أمينه العام السيد حسن نصرالله لأول مرة بعد الطوفان، وقوله إن حاملاتكم هذه قد أعددنا لها عدتها، بينما كانت المقاومة العراقية قد شرعت بعملياتها لاستهداف القواعد الأميركية في سوريا والعراق، وبدأت قوى المقاومة من لبنان والعراق واليمن تعيد رسم قواعد الإشتباك التصاعدية على جبهتها بإتقان وهدوء، على إيقاع تطورات حرب غزة، والأميركي يتلقى الصفعات لقوة الردع التي أراد استحضارها الى المنطقة لما هو أبعد من حماية كيان الإحتلال وتخديم حربه، في محاولة لرسم خطوط حمراء لمعادلات القوة، حيث تبقى إيران الطرف الرئيسي المعني بالتحدي الذي تستهدفه عملية الردع المقصودة.
- عندما رفع أنصار الله سقف قواعد الاشتباك على جبهتهم من ارسال الطائرات المسيرة والصواريخ الى ميناء إيلات، الذي توقفت الحركة التجارية فيه بفضل هذا الاستهداف اليمني، ورسموا معادلة جديدة قوامها منع السفن الإسرائيلية من عبور البحر الأحمر ونجحوا بذلك، انتقلوا الى مرحلة أعلى سقفا بمنع السفن التي تحمل بضائع الى موانئ كيان الاحتلال من العبور، فأصابوا مباشرة قوة الردع الأميركية، الأبعد مدى من وظيفة استجلاب الحاملات الأمريكية دعما لكيان الاحتلال، حيث يقوم جوهر الاستراتيجية الحربية الأميركية على السيطرة على البحار والممرات المائية العالمية الحيوية، والتي يمثل البحر الأحمر أحد أهمها، إن لم يكن أهمها، فقرر الأميركيون التحرك، وكان السعي الفاشل لتشكيل حلف إقليمي دولي يواجه أنصار الله والجيش اليمني، حيث شكل الرفض السعودي والمصري للمشاركة، وامتناع جيبوتي والصومال عن تقديم التسهيلات، ضربة قاسية للحسابات الأمريكية، وكلام وزير الخارجية السعودي في دافوس عن ارتباط عمليات أنصار الله بحرب غزة، ودعوته لوقف إطلاق النار في غزة كمدخل لإنهاء الوضع المتوتر في البحر الأحمر، إضافة مهمة في ذات السياق، وجاءت الضربات الجوية والبحرية الأميركية والبريطانية محاولة للقول إن البحر الأحمر خط أحمر.
- لو كانت لدى إيران ومحور المقاومة شكوك حول قدرة اليمن على التعامل مع التحديات التي مثلتها الغارات الأميركية والبريطانية، لرأينا مشهدا آخر، تماما كما لو كان لدى محور المقاومة شكوك حول قدرة المقاومة في غزة على التعامل مع التحديات التي مثلتها العمليات العسكرية لجيش الاحتلال في غزة، لكن الإطمئنان لقدرة قوى المقاومة في غزة واليمن أتاح المجال لحركة عسكرية في المقلب الشمالي من المنطقة، وجاءت الضربات الصاروخية الإيرانية رسالة واضحة في هذا الإتجاه، تقول أولا أن إيران ليست مردوعة كما حاول الكثيرون تصوير عدم انخراطها في الحرب، وهو تريث ناجم عن الثقة بقدرات قوى المقاومة، وبالتالي فإن إيران لا تقيم حسابا لحضور الأساطيل الأميركية والتهديدات الإسرائيلية عندما تقرر التحرك عسكريا، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بما تعتبره أمنا قوميا، وتقول ثانيا أن الجماعات التي تشغلها المخابرات الأميركية والإسرائيلية ومقراتها، بما في ذلك ما يحظى منها بالحماية المباشرة للقواعد الأميركية والمقرات الإسرائيلية، وقد تحركت خلال فترة حرب غزة على إيقاع التهديدات الأميركية الإسرائيلية، سوف تلقى العقاب المناسب، دون إقامة اي اعتبار لما يمكن أن تفعله أو تهدد بفعله أميركا و"إسرائيل"، وتقول ثالثا أن العراق وسورية يشكلان المدى الحيوي الاستراتيجي لإيران، وأن إيران لا أميركا من يرسم الخطوط الحمراء فيهما، ويأتي ذلك على خلفية ما يتم تداوله عن نوايا أميركية لزيادة القوات في سورية والعراق.
- معادلات القوة والردع في المنطقة يعاد ترسيمها على إيقاع حرب غزة والتحديات المتفرعة عنها، واذا كانت ايران تؤكد أن عملياتها دفاعا عن أمنها القومي، فإن استهداف أمنها القومي في ذكرى اغتيال القائد سليماني جاء على إيقاع حرب غزة، وإذا كانت أميركا تؤكد إن استهدافها لأنصار الله دفاعا عن استراتيجيتها العسكرية الكبرى لحماية الممرات المائية في مواجهة التحدي الذي يمثله أنصار الله في البحر الأحمر، فإن ما فعله أنصار الله في البحر الأحمر جاء على إيقاع حرب غزة، وحرب غزة هي التي تقود الأفعال وردود الأفعال.
2024-01-17 | عدد القراءات 61